...تمنى أحيانا كثيرة أن يقتله، ليالي طويلة لم يداعب فيها النوم جفونه، في كل ليلة كان يخبئ السكين تحت مخدته، ويقول لنفسه إنه سيتركه حتى ينام ويغرزها في بطنه المنتفخة و ينهي هذه الفضيحة، فالأمر لم يعد يحتمل، لكن المسكين سرعان ما كان يعود ويحدث نفسه مرة أخرى، والألم يعتصره: "إنه أبي، يا إلهي! ما الذنب الذي اقترفته حتى يكون هذا الرجل هو أبي"، ثم ما يلبث أن يحاول طرد بقايا الشفقة تلك من رأسه فيقول لنفسه: "لكنه خائن، إنه يتعامل مع هؤلاء الأوغاد الذين احتلوا وطننا وسامونا كل أنواع العذاب ويوفر لهم كافة احتياجاتهم من المأكل والمشرب"،
... في الخامس والعشرين من آب أغسطس 1944، حين طرد الحلفاء آخر النازيين من فرنسا، وصلت دورية أمريكية إلى القرية الوادعة النائمة بين أحضان السهول الخضراء غير بعيد من العاصمة باريس، وسألوا عن السيد مارسيل، قال الفتى لنفسه وهو يراهم يدلفون إلى مزرعة أبيه: "لا شك أنهم سيطلقون رصاصة على رأس هذا الخائن ويغسلون عاري"،
تأمل قائد الدورية الأمريكية وجه الرجل مطولا ثم سأله: "هل أنت هو السيد مارسيل؟"
فأجابه الأخير: "نعم أنا هو"،
وما كاد الرجل ينهي كلامه، حتى أدى له القائد ومن ورائه أفراد الدورية جميعهم التحية العسكرية، ثم التف القائد إلى أفراد دوريته وخاطبهم قائلا: "ما كان هذا النصر الكبير الذي نحتفل به اليوم ليتحقق، لولا هذا الرجل الشهم الذي يقف أمامكم، فقد كانت المعلومات القيمة التي يوافينا بها عن العدو، أمضى من أي سلاح"،
صعق الفتى من هول ما سمعه، فهرول نحو أبيه وجثا عند قدميه وهو يبكي بحرقة، رفعه الأب وحضنه بشدة، وهمس في أذنه: "سامحني يا بني، كنت أحس بألمك، لكن لم يكن بوسعي أن أقول لك شيئا، فطبيعة المهمة كانت تقتضي التكتم الشديد".
الوطنية، يا إخواني، ليست تدوينة ولا وسما ولا شعارا ولا ظاهرة صوتية، إنها ذلك الإحساس النقي الذي يعيش داخلنا ثم لا نجد له تفسيرا حين يتدفق منا كالطوفان،
فرجاء لا تفتشوا عن الوطنيين في الواجهات، فهي كاذبة جدا ومنافقة للغاية ومخادعة لدرجة الاستفزاز، المكان الحقيقي والطبيعي للوطنيين هو الظل، لأنهم أحرص الناس على نقاوة ذلك الإحساس من كل أنواع الأدناس.
مبارك عليكم الشهر...