وقي
الوِقاية: في لسان العرب كما في تفصيل الكتاب المنزَّل هي "كَفُّ الأذَى والضُّرِّ بالتَّحصُّن عنه"كما في قوله ﴿أَفَـمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الزمر 24]، وخُوطبَ أولوا الألباب بإحياء المجتمع بتحصينه عن القَتْلِ والاغتيال بالقِصاص من الْـمُعتدين على الأنفس وحرِيٌّ بأُولِـي الألباب الذين آمَنوا أن يعقلوا الخطاب في الذِّكر فيتَّقُوا اللهَ، وكَفَّ اللهُ عن رجل مؤمن من آل فرعون سيِّئاتِ ما مكروا بإغراقِهم في البحر.
وتتبيّنُ دلالة الوقاية بخطاب الذين آمَنوا أن يتّخِذوا من الإسلام والإيمان وِقاية يَقُون بها أنفُسَهم وأهليهم نارا وقودها الناسُ والحجارة، وأذِن اللهُ في سورة آل عمران للمؤمنين المغلوبين المستضعفين أن يتّقُوا الكافرين المتغلِّبِين المتسلّطين تُقَاةً يستبْقُون بها ما تبقَّى من المجتمع تقِيَّة هي غير الموالاة بالإسرار إليهم بالمودّة، ومن النِّعَم كما في سورة النحل أن جعل اللهُ للناس سرابيلَ تقيِهم الحرَّ أي تحجزُه وسرابيل تقِيهم بأسهم ومنها الدروع الواقية تُحَصِّنُ وتكفُّ الأذى والضُّرَّ، ومَنْ يَتَّبِعْ هواه بعد ما جاءَ من العلم ـ قرآنًا وهدْيًا نبوِيًّا ـ فلن يجد له من دون الله ولِيًّا ينصرُه يوم الحساب ولا واقِيًا يقِيه العذابَ، ولقد أخَذَ اللهُ بالعذاب الماحق السّاحِق آل فرعون ومَنْ قَبلَهم مِن المكذِّبين رُسَلَهم بالآيات وما كان لهم من دون الله مِن واقٍ يقِيهم أي يُحَصِّنُهُم عن العذاب الذِي استؤْصِلوا به في الدنيا، وكما في سورة الرعد سيُعَذِّبُ اللهُ خَلَفَهُم في آخر هذه الأمّة بِعَذاب في الدنيا هو أشقُّ وما لهم من دون الله مِن واقٍ يكُفُّ عنهم العذابَ، ومِنْ صلاة الملائكة على الذين آمَنوا دعاؤهم المعلوم في سورتي الشورى وغافر ومنه:
﴿فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْـجَحِيمِ﴾ [غافر 7]
﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ [غافر 9]
والله وحده هو مَنْ يَقِي عذابَ الجحيم وعذابَ النّار وعذابَ السموم وشرَّ ذلك اليومِ.
وتنزّل في سورتي المجادلة والمائدة وصف التقوى في مقابلة العُدوان، وتنزَّل في سورة مريم في شأن يـحيَى وصف التقوى في مقابلة التجبُّر، وتنزّل في سورة الأعراف وَصْفُ التَّقْوَى بالسِّتْرِ في مقابلة الْعُرْيِ، وتنزَّل في سورة الشمس تكريم الإنسان بالاختيار بين الفُجور والتقوَى ويعني أنّ التقْوَى قُصورُ الْـمُتَّقِي وامتناعُه عن التَّجَبُّر وعن الفجور ولا يـخْفَى ما فيهما من الاعتداء وإلـحاقِ الأذى والضُّر بالغير، ويعني قوله ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة 8] أنّ الظلمَ أقْربُ إلى الفجور والعدوان، وكنتُ قبْلُ أعجبُ من مبلغِ عِلْمِ الصّدِّيقة مريم ﴿قَالَتْ إِنِّـي أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ [مريم 18] وتلاشَى عجبي إذ قد اصطفاها اللهُ مرّتَيْن فجعلها تعلم أنَّ التَّقِيَّ لَنْ يعتدِيَ عليها ولا على أحدٍ إذ قد تحصّنَ بخشْيَة الله والخوف من غضبِه وعذابه عن إلحاقِ الأذى والضُّرِّ بغيره، وكذلك اقترن الإيمان مع تقْوى الله فإذا انتفَى الإيمان ضعُف احتمال التَّقْوَى إلا بِبَقيّةٍ من عقل وفطرة وحياءٍ.
إنَّ التقوى في تفصيل الكتاب المنزّل: اعتقادٌ وسلوكٌ تبَعا لِـما جاء به الرُّسُل ـ لا كَما تَهْوَى الأنفُسُ ـ خوطِبَ بهما الْـمُكَلَّفُ لِيتَّـخذَهما واقِيًا وحِصْنًا ينجو به مِن غضَبِ اللهِ وعذابِه، أمّا الاعتقاد فبالإيمان بالغيب وبالكتاب كلّه وبوعْدِ اللهِ الْـمَأتِـيِّ إيـمانا لا يتجزّأ، وأمّا السلوك فبحسبِ العلم والقدرة والأسباب كما في قوله ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن 16]
وحيث تنزّل الخطاب بتقوَى الله فإنما لِتبيانِ لُزُوم تجَرُّدِ العبدِ مما تهوَى نفسُهُ ومِن حظوط النفس والبدن وشهواتهما وليتجرَّد بالتكليف مُـخْلِصا لله يتّقِيه حقَّ تُقاته وهو أهل التَّقْوَى فقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [الأحزاب 70] يعني الخطاب بالتجرُّدِ لله واستحضار عظمته ونعمته وغضبه وعذابه ورحمته ليتمكنوا من القول السديد.
ولعل أخوَفَ مواطن الكتاب المنزّل وأدعاها للشفقة من الحساب هو قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِـمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر 18] إذ تضمّنت خطاب الذين آمنوا ـ ولا يرضى عاقل بالتخلُّفِ أو الشّذوذ عنهم ـ بتكليفهم بأربع أولاها بتقوى الله ابتداء وثانيها بالتأمُّل في أعمالنا التي ستُعرَضُ علينا يوم غدٍ يوم الحساب وثالثها بتكرار الخطاب بتقوى الله ورابعها بالتذكير بأنّ الله خبير بما نَعمَل أي ستُعرضُ علينا أعمالُنا في يوم الحساب.
ولقد دعا الرسل والنبيّون أمَمَهم إلى أن يتّقُوا اللهَ ومنه تفصيلا على لسان نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وإلياس وموسى وهارون وعيسى ومـحمّد صلوات الله وسلامُه عليهم.
إن قوله ﴿إِذْ قَالَ الْـحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة 112] ليعني أنّ مَن اتَّقَى الله سيزداد إيمانا بالآيات الخارقة مع الرسُل بها ولا يتعرَّضُ للمحذور ﴿فَـمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّـي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة 115].
وتضمَّن تفصيلُ الكتاب المنزّل خطابَ النبيّ الأمّيِّ صلّى اللهُ عليه وعلى ءَالِه وسلَّم بأن يتَّقِيَ اللهَ فلا يسع مَن دونَه من البشر ممن أراد النجاة من النار أن يستنكف عن تقوَى الله، وتضمَّن خطابَ الذين ءامنوا ثم خطابَ المؤمنين ثم خطابَ الناس بتقوى الله كلُّ في سياق مأمورات ومنهيّات ينتفع بها الْـمُطيع إن استحضر عظمةَ اللهِ ونعمته وغضبه وعذابه ورحمتَه.
إنّ المثاني:
﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة 197]
﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [البقرة 237]
لتعني أنّ طاعة اللهِ باتِّباعِ المأمورات وباجتناب المنهيات هي التَّقوى وهي الزّاد الوحيد الذي ينتفع به صاحبه في سفرِه من الدنيا إلى الدّارِ الآخرة، وأنّ العفْوَ عن الناسِ وعدمَ مؤاخذتِهم بإيذائهم مِن أفضَل الطاعات إذ هو أقربُ إلى التقوى.
وتنزّل في تفصيل الكتاب المنزَّل الخطاب بتكاليف يتأهَّل بها المطيع لكرامة التقوى ومنها عبادة ربِّنا شُكرا أي بصرف نِعَمِهِ في طاعته، ومنها الأخْذُ بالكتاب بقوة وتذكُّرُ ما فيه، ومنها الصِّيَامُ، وبتكاليف يُفْلِح المتّقون المتمثِّلون بها، وبتكاليف يُرْحَمُ بها المتَّقون، وبتكاليف يتأهلون بها لمقام الشكر كما في قوله:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الذِي خَلَقَكُمْ وَالذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة 21]
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة 183]
﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفلِـحُونَ﴾ [آخر آل عمران]
﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [آل عمران 123]
﴿إِنَّـمَا الْـمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِـحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات 10]
وإنّ دلالةَ ﴿الْـمُتَّقُونَ﴾ و ﴿الذِينَ اتَّقَوْا﴾ في تفصيل الكتاب المنزّل لأخَصُّ مما تعارف عليه خواصُّ الأمّةِ قديما وحديثا.
فمن هم المتّقون في تفصيل الكتاب المنزّل؟
والذين أحبّهم اللهُ كما في قوله ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَـى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُـحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران 76]
والذين وعد اللهُ أنْ سيعلمُ الناس قبل انقضاء الدنيا أنّه معهم أي سينصرُهم كما في قوله:
﴿وَقَاتِلُوا الْـمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [براءة 36]
ولتكون لهم العاقبة كما في المثاني:
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِـي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص 83]
وهم الذين جعل الدار الآخرة وجنات عدن دارَهم كما في قوله
﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِـي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلًونَهَا تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَـهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَـجْزِي اللهُ الْـمُتَّقِينَ﴾ [النحل 30 ـ 31]
إنّ المتّقين هم أولياء اللهِ كما في قوله ﴿وَاللهُ وَلِـيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [الجاثية 19] وقوله ﴿إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ﴾ [الأنفال 34]
ويعني أنّهم لا خَوفٌ عليهم يوم يخاف المجرمون المكذِّبون من العذاب في الدنيا ولا يحزنون عند الموت وكذلكم الرُّسُل والذين ءامنوا معهم النَّاجون من العذاب في الدنيا.
إن الولِـيَّ هو من ألقيت إليه بالمودّة وأسررت إليه بها كما في قوله ﴿يَا أَيُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدَوُكَّمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ﴾ [بداية الممتحنة]، وقوله ﴿تُسِرُّون إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ﴾ [الممتحنة 1]، أي تُوالونـهم في الحالين يُسرا وعُسرا، أمنا وخوفا.
وإن من تفصيل الكتاب وأصول الخطاب أن أولياء الشيطان هم من قد مسّهم عذاب أهلكهم في الدنيا كما في قوله ﴿يَا أَبَتِ إِنِّـي أَخَافُ أَنْ يَـمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ [مريم 45]، ويعني أن من عذّب في الدنيا فقد أصبح وليا للشيطان.
وقوله ﴿تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَـى أُمَمٍ مِّنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَـهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَـهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَـهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النحل 63]، ويعني أن القرون الأولى وهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم قد أهلكوا في الدنيا بعذاب من عند الله فكانوا أولياء للشيطان منذ نزل عليهم العذاب ولا يزال الشيطان وليّهم اليوم وإن لهم في الآخرة عذابا أليما أي أن الشيطان هو وليّهم كذلك في الآخرة.
أما أولياء الله فهم الذين نجّاهم الله من العذاب الذي أهلك به القرون الأولى أي هم الذين آمنوا ونجاهم الله مع كل من نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وكذلك نجَّى الله قوم صالح فلم يخافوا يوم الفتح كما في الذّكْر من الأوّلين في قوله:
﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِـَا ظَلَمُوا إِنَّ فِـي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْـجَيْنَا الذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [النمل 53]
﴿وَأَمَّا ثَـمُودُ فَهَدَيْنَاهُم فَاسْتَـحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْـهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْـهُونِ بِـمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ وَنَـجَّيْنَا الذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [فصلت 18] ويعني أنَّهم ءَامَنُوا إيـمَانا مستأنفًا،
ومن المثاني معه وعْدًا في الآخِرين من هذه الأمّة ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَـحْزَنُونَ الذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَـهُمُ الْبُشْرَى فِـي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِـي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [يونس 63 ـ 64]
والبشرى في الحياة الدنيا تفصيلا هي كما في قوله ﴿إِنَّ الذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْـمَلَاِكَةُ أَلَّا تَـخَافُوا وَلَا تَـحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْـجَنَّةِ التِـي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَـحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِـي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِـي الْآخِرَةِ﴾ [فصلت 30 ـ 31]
هؤلاء المتّقون في آخر الأمّة هم الذين هم الذين ستتم موعظتُهم وبعيس ابن مريم وكما في المثاني:
﴿هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران 138]
﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءَايَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [النور 34]
﴿وَمُصَدِّقًا لِّـمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة 46]
وهم الموصوفون بقوله ﴿وَالذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْـمُتَّقُونَ لَـهُمْ مَّا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْـمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذِي عَمِلُوا وَيَـجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الزمر 33 ـ 35]
ويعني أنّ لهم سيِّئاتٍ سيُكَفِّرُها الله عنهم وأنّ لهم حسنات سيجزيهم اللهُ بها.
وهم الموصوفون بقوله تعالى ﴿وَالذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْووَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان 74] فلعلّ إمامهم هو الذي سيأتَمُّ به ابن مريم.
ولقد وقع من الخواصِّ تدليسُ العوامِّ في بيان قوله ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ [البقرة 282]، إذ ليست التقوى شرطا لزيادة العلم وحصوله من غير تعلُّم وكسْب ولو كان كذلك لما كان من فرق بينه وبين قولنا "واتقوا اللهَ يُعَلِّمْكم اللهُ" بجزم الفعل أي بإسكان الميم على جواب فعل الأمر والخطاب ا وعلى نسق المتفق على قراءته في قوله ﴿فاتبعوني يحببْكم الله﴾ [آل عمران 31] وقد تم جزم الفعل في جواب فعل الأمر الواقع في موضع الشرط.
إن قوله ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ [البقرة 282] لمتفق على قراءته برفع الفعل ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ والمعنى اتقوا اللهَ واللهُ يعلِّمُكم ما تتّقونه به من الأحكام والتشريع أي أن اللهَ لم يكلف العبادَ بتقواه كما يتصوَّرُه كل واحد منهم ويتّخذه دِينا لنفسه وإنما اللهُ يُبيّن لهم ما يتّقونه به وهو مما يُعَلِّمُهم إذ نزل من عنده في الكتاب وعليهم تعلُّمُه بالكسْب والمدارسة والاستقصاء والاستقراء وكما في قوله ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّـى يُبَيِّنَ لَـهُم مَّا يَتَّقُونَ﴾ [التوبة 115].
إن قوله ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ [البقرة 282] في آخر آية الدَّين، لتعني أن الله قد علّم المسلمين فيها وفي ما قبلها من الأحكام والتكاليف الفردية والجماعية وفي سائر الكتاب ما يتّقون ـ بامتثال مأموراته واجتناب منهياته ـ عذابَه وعقابه.
ولا يخفى أن قوله ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ﴾ في أول آية الدَّين لمن المثاني مع قوله ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ في آخر آية الدَّين فمما كُلِّف به الكاتبُ من الأمانة والنقل قوله ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء 36]، وَمـمّا كُلِّفَ بِهِ مِن الإتْيانِ بالشهادة على وجهها قوله ﴿ذَلِكَ أَدْنَـى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا﴾ [المائدة 108]، وقوله ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ﴾ [النساء 135]، وقوله ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ [المائدة 8].
إن قوله ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ﴾ [النحل 78] ليعني أن السمع والبصر والذاكرة هي أدوات التعلم بالكسب.
ونتبين قوله ﴿وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْـجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِـمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ﴾ [المائدة 4] لدلالته على أن الناس تُعلِّمُ الجوارحَ من الطير والكلاب الصيدَ بالترويض والكسب والتجربة، ومن زعم أن الله قد علّم الصيّادين بالوحي الخارق المعجز فهو أحمق أخرق، وإنما الصيادون يُعلّمونها مما تعلّموا هم أنفسهم بالكسب والتجربة أي مما علّمهم الله، ومنه قوله ﴿وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ﴾ [البقرة 282] أي كما علِم شهادتَه بالمشاهدة والسماع.
من موسوعة التفسير وأصوله
قسم "معاني المثاني" معاني كلمات القرآن وحروفه ومضمراته ـ باختصار ـ
الحسن مـحمد ماديك
باحث في تأصيل القراءات والتفسير وفقه المرحلة











