لي قريب سبق وأن ضاق بعقله.
وبعد أن عادت الأمور إلى نصابها بعقود، كان في رحلة روتينية للبحث عن ضالة له، فقابل رجلا " بجاوي"، فسأله عن وجهته ومنطلقه ( كعادة أهل البادية) فلم يجبه الرجل وعوضا عن ذلك، بدأ يغني و" يصوفر " فما كان من صاحبنا إلا أن ضحك قائلا للرجل" اجنون جايك أنا من شورو،، ذاك كامل لاهي يعكب يوقف عليك "
( الكثير من القصص في البلاد تعتبر ميتولوجيا اجتماعية وغالبا ما تنسب في كل جهات البلد لأشخاص مختلفين)
أنا أعقل من الحبة لكنني أغبى من الديك، ولا حرج في أن أركز على جمود الحبة كي أنعم ببعض الغرور ( لكل منا حاجة للغرور).
منذ نهايات عقد التسعينات وأنا أتحاشى إلحاح الكثير من الأسئلة ( "نفينتي" عنها بلغة قوم) .
وهربي من تلك الأسئلة كانت تتقاسمه الدوافع والمحظورات. الدوافع كانت في المجمل منتمية لنسخة الوجدان الإجتماعي المترسبة في ذاتي المكتسبة تربويا.
أما المحظورات فكانت تشكل عائقا فنيا إلي حد كبير.
فمن سيتقبل الأسئلة دون أن يكشف أمري؟
ومن سيسمعها مني كما أريدها دون أن يرفع صوته بالتهليل والتكبير والإستعاذة مني؟
والأهم هو، من يستطيع الإجابة؟
وفي ثنايا هذا الصراع كان عود إيمان العجائز يفقد تماسكه وتساقط أوراقه تباعا، بينما كنت أعاني ضغطا نفسيا مركزا فيما يتعلق بوجهتي التي لم تتأصل معالمها بعد.
أصعب ما يمكن للإنسان أن يواجهه، هو لحظة إقدامه إلى الفراغ، حيث يعترض الشك إيمانك حتى بالنقائض، فلا تستطيع الإيمان بفكرة ولا الإستقرار إلى نقيضها.
في تلك اللحظة التي تنازعك روحك لصوت المؤذن ويعبر عقلك عن عبثية ذلك الشعور ومحاولة منطقته وتعليله.
لحظة تدافع بين الإيمان بضرورتي نقاء الروح و حرية العقل.
اللهم لا تقدمنا إلا لخير ولا تؤخرنا إلا له.
***
تدافعت في الأعوام الموالية مرجحات قوية ومتكافئة، وكلما ازدادت وطأة الدليل ونقيضه كلما تقلصت مساحة القرار وتعذرت خيارات الفرار.
تستقر الأسئلة في الحيز المقابل للسكينة، ويتجاوران كالعوائل المصرية في حي مكتظ.
حين يتأخر أحد الأطفال عن وقت خروجه المعتاد، تطل أم حسنين من شرفتها لتصرخ سائلة عن "الواد حسن ابن ام حسن" لماذا لم يخرج اليوم، وفي طريق صراخها يخترق هدوء الجيران، والذين بدورهم سيخرجون موزعين على ساعات ذلك النهار للسؤال عن "الواد حسن".
تحس لوهلة بأن الكون بكل تفاصيله من حولك يلقي عليك التحايا ويسألك عن أسئلتك ويمضي في كرم لمضاعفتها " من الذرة إلى المجرة" حسب تعبير الناسك "علي الهويريني".
***
لكي تتأمل حاجة الروح تحتاج لعقل يعترف بشيء غير نفسه، أي أنك تحتاج لإستعارة روح أخرى أكثر ألقا وسكينة.
ولكي تحاكم العقل، فأنت تحتاج لعقل آخر تستأمنه على الحياد، وتزكيه حكما.
رباه من أين يستعير مراهق معقد، روحا وعقلا آخرين؟
في هذه الأثناء كنت ضمن رفقة خاصة تتقلص يوما بعد يوم ، إلى أن استقرت على قلة من قلة، كنت أحاججهم مستظهرا روح إيمانهم ومرجحاته المنطقية.
لكن الأمر كان أكثر تعقيدا من أفكر في النظر أسفل قدمي .
من الصعب أن يتملكك الغرور بعقلك مايناهز عقدين من الزمن، لتكتشف أنه كان مجرد دمية كبيرة، محشوة بالصوف.
كنت مع الزمن أزداد براعة في المحاججة، وأكسب المهارة تلو الأخرى في التعبير عن كامل اعتقادي دون الوقوع في اعتراف مباشر أو حتى ضمني بما أنا عليه.
ولم أكن أترك حجة تطرح وبها موضع ضعف جانبي إلا وسقته حتى أبلغته جذعها وأظهرته كما لو كان شرخا في أساسها.
كانت لصديقي السالك المدني روح نقية ومعرفة موسوعية، وكان ممن يتقن المحاججة دون فجر ولا ترصد لبينة على ما يخالجني.
كان يعرف ما أنا عليه دون الحاجة لذكر ذلك.
صديقي الدكتور يحيى البيضاوي كان رجلا رصين الفكر حاذق الحجة، وكان يمزج بمهارة عالية بين روح الدين وسلطة العقل.
ولا أستطيع أن أعرج من هنا دون ذكر هامة علمية وفكرية قل نظيرها، الأستاذ الدكتور مختار الغوث.
الذي كرس في صفحات موجزة مكانة العقل (العقل أولا) وليرسم خطة دقيقة "في بناء الفكر"، وهما كتابان صغيرا الحجم عظيما المنزلة.
كانت لهذا الثلاثي أدوار متفاوتة في حياتي، وقد شكل كل منهم قوة دفع معاكسة لترشيد اندفاعاتي وتأطير رؤيتي.
وقد شكل عطاؤهم في البداية وعلى مدارات زمنية يخلتف كل منهم فيها عن الآخر، قوة صد لم يكن تأثيرها منطقيا من حيث جوهره العقلي، لكنه شكل صوتا من حيز الصمت والفراغ والخوف الذي ظللت حبيسه لأعوام.
ولظروف وقتية قاهرة سأقفز للخاتمة
هذا الإشكال الكبير، والصدع الوجداني البالغ، يرجع أساسا لسبب واحد وبسيط، وهو عدم تقبل العقل لأن يسير الواحد في مسارين متوازيين وفي ذات الوقت، أي أن سكون الشيء هنا وهناك في آن واحد .
هناك مساران لا يمكن قياس ولا رصد أحدهما بالآخر.
العقل يستعر من جيرة الروح ويحاول الهيمنة على الحيز المادي، وهو بذلك يتنكر لها وهو "محرور" لكونها لا تخضع لسلطانه ولا يستطيع نكرانها، بينما تستوطن معه ذات البدن الذي "فصصه" بمبضعه دون أن يصل لذات مادية لهذه "المكعومة".
والروح غير معنية بالعقل أصلا وبالنسبة لها هو خارج حيز التقضي، فهذا المغرور بكل "جنابه" هو بالنسبة للروح ليس قضية ولا مناطا.
ومن هذا ندرك أن الروح معنية بالإنطلاق والريادة وعاولمها تقع أمامها لا خلفها، بينما موضع العقل ومهمته هي التتبع.
لأن الروح مدار كامل القوانين، بينما العقل حاسة لا تخلق ولا تبتكر وإنما تتبع الخلق وتزاوج بين المخلوقات لتحلل كنه الخلق.
هناك إذا أصل له اعتبار النشأة وهو الروح بينما "سي العقل" لا يمتلك مقوما تعريفيا خارج وجود غيره، لأنه تابع للموجودات ومعلل لها، وهذا يعني أنها تسبقه ليكون قضية في الأساس، وقبل وجودها ينتفي مفهومه بالكامل ودون أي رحمة ولا نجدة من منطق.
ما حصل إذا لم يكن إعمالا للعقل ولا تذكية له، وإنما كان جهلا بالعقل نفسه، وتحريضا له على إساءة جيرته.
على العقل أن يسترجع روحه ،لأن الروح لا تترك عقلها أبدا.
وفي الختام لا زالت تنتابني فجائيتا عمر رضي الله عنه في الضحك والبكاء.
فما يحزنني هو تلك الصورة التي بقيت عالقة عني في أذهان الكثير ممن لا يتاح إفهامهم، ولا تفهيمهم شيئا عما حصل من تطورات بفضل الله وكرمه .
أما ما يضحكني، فهو تلك الزئبقية الإيمانية التي تنتاب الكثير من الملحدين حين تنكشف حمولة تعبيرهم عن حقيقة ايمانهم .
فتراهم يتحدثون عن إسلامهم كما لو كانوا تحت ذؤابة بن الوليد. ( أنا حامد لملان مسلم) بينما كان قبل قليل يتحدث عن عقل داروين وعن قوة نظرية النشوء والتطور أمام نظرية الخلق.
وحين أراهم يلبسون عبارات لبوس أخرى ( يستخدمون عبارة الأساطير حين يتجنبون ذكر دين).
وتبلغ الكوميديا أوجها حين يستبسل أحدهم في إثبات أن الإسلام دين رحمة، وحرية وانفتاح في حين لم يجف زبده ، ولم يستعد هدوء أوداجه بعد، وهو يحاكم الحضارة والتاريخ والفقه والنص والتأويل.
تراه يطعن في البخاري ومسلم، بينما "يخبطك" بحديث موضوع أو ضعيف حين يجادل عن رحمة الإسلام أو نفي حد الردة.
" موجبو لبجاوي "
لا أدري هل ستكون لهذا الحديث بقية.
لكن له بالتأكيد بقايا كثيرة كامنة.











