لقد هرمنا — ليست مجرد عبارة عابرة خرجت من فم شيخ في سيدي بوزيد قبل 14 عامًا، بل هي جرحٌ مفتوح في الوجدان التونسي. كلمة تختصر زمناً من الانتظار، وحلمًا بالحرية تأخر حتى ظن الناس أنه لن يأتي، ثم جاء فجأة كوميض الثورة.
لكن بعد كل تلك السنوات، تعود العبارة اليوم كأنها أول الكلام لا آخره: لقد هرمنا من الدوران في نفس الدائرة. هرمنا من الوعود. هرمنا من الإصلاح الذي لا يكتمل. هرمنا من الدولة التي تتغير فيها الوجوه ولا يتغير المصير.
فماذا يحدث في تونس اليوم؟
ولماذا يبدو الشعب نفسه — الذي أشعل شرارة الربيع العربي — وكأنه يعود إلى السؤال الأول:
هل كانت الثورة بداية الطريق… أم مجرد فصل جميل في كتاب لم يُكتب للنهاية بعد؟
■ من أين نبدأ قراءة المشهد؟
لبّ الإجابة ليس في السياسة فقط، بل في الإنسان.
التونسي اليوم يقف بين تعب وخيبة، بين ذاكرة الثورة وواقع السلطة، بين خوف من الفوضى ورغبة في الحرية. والسلطة من جهتها — ممثلة بالرئيس قيس سعيد — خرجت من صندوق اقتراع ديمقراطي، لكنها وصلت إلى شكل حكم مختلف جذريًا عن جو المرحلة التي جاءت منها.
لقد انتُخب سعيد بصدق شعبي واسع، لأنه بدا:
نظيفًا، بسيطًا، غير ملوّث بميراث الأحزاب، غير تابع لمنظومة المصالح.
جاء كرجل قانون يتحدث لغة الناس لا لغة مراكز النفوذ.
لكن بين يوم الانتخابات ويوم القرارات مسافة لم يتوقعها الكثير.
■ متى بدأت البلاد تتغير؟
التحول الكبير بدأ في 25 يوليو 2021:
إقالة الحكومة، تجميد البرلمان، حكم بالمراسيم، ثم دستور جديد يمنح الرئيس صلاحيات شبه مطلقة.
هنا تغيّر ميزان الدولة:
قبل 2021 بعد 2021
تعددية حزبية مركزية قرار
حكومة ورئاسة رئاسة منفردة بالصلاحيات
مجتمع مدني قوي تضييق واتهامات بالتآمر
مساحة للنقاش مساحة للاتهام والتخوين
انتقال ديمقراطي نظام رأسي واحد
لم يحدث هذا بانقلاب عسكري، ولا عبر دبابة في الشارع.
بل حدث قانونيًا… تدريجيًا… بأدوات الدولة نفسها.
وهذا ما يجعل المشهد أخطر وأكثر تعقيدًا.
■ أين المعارضة؟ أين الشعب؟
المعارضة موجودة، لكنها متعبة — مثل العبارة نفسها: لقد هرمنا.
إسلاميون ويساريون وقوميون وليبراليون، لكن كل فريق يتصارع أكثر مما يتوحد.
لا صوت واحد. لا قائد واحد. لا مشروع جامع.
أما الشعب، فهو بين نارين:
- لا يريد عودة الفوضى السياسية
- ولا يريد تضييق الحريات
والمعادلة هنا قاسية.
فمن أجل الخبز قد يُضحّى بالصوت، ومن أجل الاستقرار قد تُؤجّل الحرية.
السلطة فهمت ذلك جيدًا — فحكمت من فوق، بينما المعارضة تتصارع من الأسفل.
هل نحن أمام دولة تتشكل أم دولة تتراجع؟
هناك قراءتان للمشهد التونسي:
القراءة الأولى
قيس سعيد يصحح مسار ثورة اختطفتها الأحزاب.
يبني دولة قوية، نظيفة، لا تتحكم بها اللوبيات.
يطبّق “الديمقراطية المباشرة” من الشعب وإليه.
القراءة الثانية
الرئيس يسحب من تونس شكلها الديمقراطي.
يُقصي المعارضة، يُضيّق على الصحافة، يحاكم الخصوم بتهم أمنية مطاطة.
يحوّل الجمهورية من تعددية إلى حكم فردي.
والحقيقة أن البلد ليس بالكامل هنا ولا هناك، بل يقف بالمنتصف — في مرحلة يعاد فيها تشكيل مفهوم السلطة والحرية.
ما الذي سيحدث لاحقًا؟
السيناريوهات مفتوحة:
1) استمرار المسار الحالي
رئاسة قوية، معارضة ضعيفة، استقرار إداري مقابل تضييق سياسي.
تونس تصبح دولة سلطة أكثر من دولة تعددية.
2) انفجار اجتماعي
إذا اشتدت الأزمة الاقتصادية أكثر، قد يعود الشارع إلى المربع الأول — لا ضد شخص، بل ضد واقع كامل.
وقد نسمع العبارة من جديد: لقد هرمنا… ولكننا لم نستسلم.
3) مصالحة وطنية
هذا هو السيناريو الأجمل والأصعب:
حوار جديد، دستور متوازن، مشاركة بين الدولة والمعارضة، خروج آمن من الاستقطاب.
لكن ذلك يحتاج وعيًا لا غضبًا — وقيادة لا رد فعل — وتضحية لا تصفية.
الخلاصة التي تعود إلى الجملة الأولى
في تونس اليوم لا يموت الأمل، لكنه يتعب.
لا تنتهي الثورة، لكنها ترتاح قليلًا على كتف واحد.
والشعب — الذي قال يومًا “لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة” —
يستطيع أن يقول مرة أخرى:
لقد هرمنا… لكننا ما زلنا نريد وطنًا لا نهرم فيه.
فالمستقبل ليس مغلقًا،
ولا مكتوبًا،
ولا محسومًا —
إنه ينتظر التونسيين ليقرروا:
هل تكون لقد هرمنا نهاية الحكاية؟
أم تكون بدايتها الجديدة؟
نقلا عن رأي اليوم











