زووم الصحراء.. غينيا بيساو.. انقلاب يعيد ترتيب قواعد اللعب

في أقل من أربع وعشرين ساعة تحولت غينيا بيساو من انتظار إعلان نتائج انتخابات رئاسية متنازع عليها، إلى مشهد إطلاق نار قرب القصر واللجنة الوطنية للانتخابات، وظهور ضباط على شاشة التلفزيون العمومي يعلنون تولي “القيادة العسكرية العليا لاستعادة الأمن الوطني والنظام العام” كامل الصلاحيات، وعزل الرئيس عمر سيسوكو إمبالو، وتعليق العملية الانتخابية وإغلاق الحدود.

ما بين رئيس يؤكد – عبر اتصالات إعلامية – أنه «أُطيح به» لكنه ما زال يتحدث بحرية نسبية، وجناح عسكري يتحرك أساسًا من قلب الرئاسة، ومعارضة تؤكد أن صناديق الاقتراع كانت تميل لصالحها؛ يبدو أن البلاد دخلت مرحلة انقلاب عند لحظة الحسم، أكثر من كونها انتقلت إلى نظام عسكري مكتمل الأركان.
في زوم الصحراء هذا الأسبوع نحاول الاقتراب من ما وقع في بيساو لتجلية أبعاده واستشراف مآلاته.

 

عتبة من اقتراع..

ليس ما جرى في بيساو قفزة مفاجئة خارج السياق، بل حصيلة مسار متدرج من التراكمات السياسية والأمنية:
    •    جاءت انتخابات 23 نوفمبر في ظل برلمان محلول منذ ديسمبر 2023، ودولة تُدار بالمراسيم، ومؤسسات أمنية منقسمة منذ مواجهة مسلّحة بين وحدات من الحرس الوطني والقوات الموالية للرئاسة.
    •    سبق الاقتراع إقصاء حزب الاستقلال التاريخي (PAIGC) وزعيمه، ما خلق فراغًا في معسكر المعارضة، ودفع إلى تجميع القوى المناوئة لإمبالو خلف مرشح مستقل هو فرناندو دياز دا كوستا.
    •    عقب التصويت، أعلن معسكر دياز تقدمه استنادًا إلى محاضر المكاتب، فيما أعلن معسكر إمبالو فوزًا من الجولة الأولى، في لحظة تنازع مكشوف على الشرعية قبل أن تقول اللجنة الانتخابية كلمتها.
    •    حدّدت اللجنة موعدًا لإعلان النتائج الرسمية، لكن ساعات قليلة قبل ذلك دوّى إطلاق النار في العاصمة، وصدرت رسالة العسكر بتعليق الانتخابات وإغلاق المؤسسات، ما يعني عمليًا تجميد لحظة إعلان الخاسر والفائز.

وفي الخلفية:
    •    بلد يوصف منذ سنوات بأنه “دولة مخدرات” بامتياز، يشكّل معبرًا رئيسيًا للكوكايين نحو أوروبا، مع تشابك عميق بين شبكات التهريب ودوائر داخل الجيش والنخبة، وسجل طويل من الانقلابات والمحاولات الانقلابية.
    •    جيش غير متجانس، بين وحدات تقليدية وقيادات مناطقية، وجناح مرتبط مباشرة بالمكتب العسكري للرئاسة، يتقدمه الآن اسم دينيس ن’كانها، الذي مثّل الوجه الأبرز في البيان العسكري، بما يعكس أن المبادرة خرجت من دائرة “عسكريي الرئاسة” أكثر من كونها قرارًا موحدًا للمؤسسة.
    •    تضارب في المعلومات حول مدى امتداد الانضباط للأمر العسكري خارج العاصمة؛ فحتى الآن لا توجد إشارات واضحة إلى دعم معلن من قيادات الداخل، ما يجعل الانقلاب، في هذه المرحلة، محدودًا جغرافيًا وسياسيًا.

 

ارتدادات حزام الانقلابات

تأتي أزمة بيساو في سياق “حزام الانقلابات” الذي بات يطوق غرب إفريقيا من الساحل إلى الأطلسي، وتضاعف من كلفته عوامل ثلاث:
    •    على مستوى الإيكواس: اختبار جديد لقدرة المنظمة على فرض العودة للمسار الدستوري في بلد صغير لكنه شديد الهشاشة، تتقاطع فيه الانقلابات والمخدرات والهجرة، ويُنظر إليه كحلقة ضعيفة في سلسلة الأمن الإقليمي.
    •    على مستوى السنغال: بلد يجاور بيساو في منطقة تاريخيًا مضطربة (كازامانس)، ما يجعل داكار حريصة على ألا يتحول الانقلاب إلى فراغ أمني يغذي مسارات التهريب أو ينعكس على التوازنات الداخلية في الجنوب السنغالي.
    •    على مستوى التنافس الدولي: الانقلاب يضيف ورقة جديدة في ساحة يتزاحم فيها خطاب القوى الغربية مع الحضور المتزايد لروسيا وتركيا وقوى أخرى، وهو تنافس ينعكس على السرديات الإعلامية، وعلى عروض الأمن والتسليح والشراكة التي تُقدَّم للنخب الحاكمة في مثل هذه الأزمات.

 

أي أفق؟

حصيلة هذه العناصر تضع غينيا بيساو أمام معادلة انقلابية خاصة: انقلاب معلن، لكن بأركان سياسية وأمنية لم تكتمل بعد، ويمكن قراءته في ضوء ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
    •    انقلاب لخلط الأوراق (السيناريو الأرجح)
تحرّك عسكري محدود، هدفه الأول تعطيل إعلان نتائج تميل لمرشح المعارضة، وإعادة فتح التفاوض على قواعد اللعبة قبل تثبيت الخسارة في صناديق الاقتراع.
دعم هذا السيناريو أن الجناح المتصدر للتحرك هو جناح الرئاسة، وأن الرئيس المخلوع احتفظ بخط اتصال مع الإعلام، وأن معطيات المعارضة حول النتائج الأولية كانت إيجابية بالنسبة لها، ما يجعل الانقلاب أداة لإعادة ترتيب موازين القوى أكثر من كونه انتقالًا إلى حكم عسكري طويل.
    •    انقلاب مكتمل يغيّر قواعد الحكم
يفترض هذا السيناريو توسع قاعدة الدعم داخل الجيش، وتشكيل مجلس عسكري واضح، وخارطة طريق تُعلن كبديل للمسار الانتخابي. حتى الآن لا تظهر مؤشرات كافية على تحقق هذه الشروط؛ إذ يظل الخطاب الرسمي للقيادة العسكرية في حدود “استعادة النظام” و”تعليق العملية الانتخابية” إلى أجل غير مسمى، دون مشروع سياسي واضح.
    •    تآكل سريع للتحرك تحت الضغط
احتمال يتقوّى في حال تزايد الانقسامات داخل المؤسسة العسكرية، واشتداد ضغط الإيكواس والاتحاد الإفريقي والشركاء الدوليين، ونجاح المعارضة في توثيق سردية فوزها. في هذه الحالة قد تُفرض تسوية انتقالية قصيرة تعيد العملية الانتخابية لمسارها، مع ضمانات إقليمية وتشديد على مراقبة الجيش.

 

موريتانيا.. وأزمة بيساو..
لا يشكّل اضطراب بيساو خطرًا مباشرًا على موريتانيا، لكنه يضيف طبقة جديدة من التأثيرات المتناقضة. فمن جهة، يرفع غياب الاستقرار في غرب إفريقيا الأطلسية من قيمة الدول التي ما زالت تحافظ على تماسكها، ويمنح نواكشوط مكانة أعلى لدى الشركاء ويزيد مساحة الدعم والتمويل الموجّه لها بوصفها النقطة الآمنة في محيط مضطرب. ومن جهة أخرى، يثير الانقلاب مخاوف من تنامي الهجرة غير النظامية عبر الأطلسي، واتساع حركة الشبكات الإجرامية، ما يفرض ضغطًا إضافيًا على المنظومة الأمنية ويجعل متطلبات التحصين الداخلي أكبر. وفي المحصلة، يمنح الاضطراب موريتانيا ميزة استراتيجية، لكنه يضاعف أيضًا العبء المطلوب للحفاظ على هذا الاستقرار في منطقة لا تهدأ تقلباتها.

خميس, 27/11/2025 - 10:40