كانت الحادثة التي وقعت خلال المهرجان الغنائي المعروف بالمنطقة التي أقيم فيها في جنوب غرب بريطانيا (غلاستونبري) في شهر يونيو الماضي، تعبيرا عن مشاعر تختلج في نفوس الكثيرين إزاء الممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. فخلال عرض فرقة «بوب فايلان» الإنكليزية، ردّد الجمهور هتافات من أبرزها: «الموت للجيش الإسرائيلي» و«فلسطين حرّة» وأصبح الجوّ مكهربًا بشكل غير مسبوق.
وجاءت حوادث غزة في العامين الماضيين لتعمّق تلك المشاعر، برغم ما تمارسه اللوبيات الصهيونية وداعمو الاحتلال من ممارست تسعى للتخويف والتشويش. فقد كان هتافٌ واحد أطلقه المشاركون في المهرجان ضمن مجموعة تعرف بـ «ني كاب» صرخة أيقظت قلوب الكثيرين الذين كانوا يسمعون عن قتل العشرات من أهل غزة يوميا ولا يحرّكون ساكنًا. فارتفع الهتاف ضد ما يسمى «قوات الدفاع الإسرائيلية». هذه المشاعر لم تختف من الساحة الدولية منذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن، وما تزال تعبّر عن نفسها عندما تسنح الفرصة.
ولكن هناك ظاهرة أخرى توازي الاحتجاج السياسي والهتاف المضاد للاحتلال، تتمثل بالمقاطعة على أصعدة شتى: سياسية واقتصادية وثقافية. وتوسعت بشكل ملحوظ في المقاطعات الشعبية والمؤسسية. فما أكثر الحالات التي انسحب فيها فنانون ومثقفون من فعاليات بسبب الحضور الإسرائيلي. وما تزال هناك مؤسسات دولية تتردد في التعاون مع كيان الاحتلال. وبرغم محاولات أطراف عديدة لإنهاء مقاطعة المنتجات والشركات الداعمة لـ «إسرائيل» فقد استمرت تلك المقاطعة. هذا بالإضافة لانسحاب بعض صناديق الاستثمار الكبرى من شركات إسرائيلية. ولا تقل المقاطعة الثقافية والأدبية أثرا. بل أن الجامعات البريطانية التزمت على مدى نصف قرن بمبدأ «المقاطعة الأكاديمية» للجامعات والمعاهد الإسرائيلية. والمقاطعة ليست محصورة بقضية فلسطين، بل مارستها الدول للترويج لمواقفها من قضايا تهمّها.
فقد قاطعت الولايات المتحدة قمّة مجموعة العشرين في جنوب أفريقيا عام 2018 بسبب مزاعم إساءة معاملة البيض، بينما يرى البعض أن تلك المقاطعة كانت انتقاما من جنوب أفريقيا بسبب سياساتها الداعمة للقضية الفلسطينية. وكان هناك قرار الجامعة العربية بمقاطعة مصر في العام 1978 بعد توقيعها اتفاقيات كامب ديفيد مع إسرائيل.
ظاهرة المقاطعة لأسباب سياسية لا تنحصر بالشرق الأوسط الذي شهد لأكثر من نصف قرن مقاطعة لكيان الاحتلال الإسرائيلي. فمنذ بضعة أشهر قرّرت كندا مقاطعة السفر للولايات المتحدة بسبب سياسات ترامب التي استهدفتها. وهناك مقاطعة وطنية شاملة لكل ما هو أمريكي، بدأت منذ أن قرر الرئيس الأمريكي فرض ضرائب على الواردات الكندية بالإضافة لتصريحاته حول رغبته في ضم كندا للولايات المتحدة، الأمر الذي اعتبره الكنديون اعتداء على السيادة. وقد التزم الكنديون بعدم السفر إلى أمريكا وهبطت معدلات السفر بين البلدين في الشهور الأخيرة. وتكشف الإحصاءات أن الرحلات انخفضت بنسبة 24 بالمائة خلال العام الأخير. ومنذ يناير الماضي كان هناك 437000 رحلة مقارنة بـحوالي 600000 رحلة في العام السابق. فمنذ تصريحات ترامب التي لامست مشاعر الكنديين وأشعرتهم بالقلق إزاء مستقبل بلدهم وسيادتها، أصبحوا يستشعرون الخطر الذي قد يداهمهم في المستقبل غير البعيد، خصوصا إذا استمرت عقلية الهيمنة والاستحواذ تهمين على السياسات الأمريكية.
ولكن يبقى السؤال: ما مدى فاعلية أسلوب المقاطعة بكافة تجلّياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والرياضية؟ خصوصا أنها لا تضرّ بمصالح الطرف المستهدف بها فحسب، بل تتحمّل أطراف عديدة نتائجها السلبية. وهل هناك أمثلة لنجاح أسلوب المقاطعة في تغيير القرارات التي أدّت إليها؟ ثمة نقاط عديدة في هذا الجانب: أولها أن المقاطعة تؤكد وجود أزمة بين الأطراف المعنيّة بها، هذه الأزمة قد تكون سياسية أو اقتصادية أو غيرهما. ثانيها: أن من يقوم بها عادة لا يجد بديلا لها للتأثير على الطرف المستهدف. فحين تتخذ دولة ما قرار مقاطعة اجتماع سياسي أو دورة رياضية، فإنها تعتبر ذلك هو الطريق الوحيد للتعبير عن عدم رضاها عن الوضع. ثالثها: أن المقاطعة تحتاج لشجاعة ووضوح موقف، خصوصا أن لها نصيبا من الفشل أو عدم التأثير على الأقل. فالطرف المستهدف قد يصّر على موقفه ولا يتنازل لمن يهدد بالمقاطعة. رابعها: أنها تكشف عمق سخط الطرف الذي يقوم بها، ويعتبرها سلاحه الأخير، وذريعته للحفاظ على موقفه السياسي والأخلاقي. خامسها: أن لها تبعات على من يقوم بها، فغياب الفريق الرياضي عن دورة عالمية قد يوصل رسالة للمنظمين والفرق الأخرى، ولكنه عادة لا يحسم الموقف لصالحه. سادسها: أنها تكشف غياب الانسجام بين المكوّنات البشرية، وعدم قدرتها على التعايش مع الاختلاف، وعدم القبول بحتمية الاختلاف في ما بينها.
منذ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين استمرت استراتيجية المقاطعة بكافة أشكالها، وكان للجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي دور أساس في تنظيمها وضمان استمرارها. وعندما حدثت خروقات كبيرة كانت ردور الفعل ساخطة جدا، كما حدث عندما قام الرئيس المصري الأسبق، في العام 1978 بزيارة القدس المحتلة. وثمة سعي حثيث بدعم أمريكي للتطبيع بين الدول العربية والاحتلال الإسرائيلي، برغم استمرار عقلية الاحتلال وتوحشه ضد سكان الأرض الأصليين. فلا يكاد يمر يوم بدون استشهاد أحد من الفلسطينيين. يحدث ذلك أمام مرأى العالم ومسمعه، ولا يكاد يرتفع صوت فاعل لوقف ذلك. وربما الأخطر من ذلك حدوث تطبّع لدى المشاعر الإنسانية مع حالات القتل التي كثيرا ما تكون جماعية. وهذا التطبّع يمثل قتلا للمشاعر البشرية والأحاسيس الإنسانية التي تنفر من ذلك في الحالات الاعتيادية. وإنه لأمر خطير يهدّد الإنسانية أن يصبح القتل خارج إطار القانون أمرا مقبولا، وأن يكون لدى المجتمع البشري استعداد للتعايش معه. ولا يقلّ خطرا عن ذلك تحوّله إلى حالة طبيعية لا تؤدّي لردود فعل مناسبة. وهكذا أصبح القتل الجماعي للفلسطينيين حدثا يوميا لا يثير المشاعر ولا يستنهض الهمم لوقفه، بينما يتحوّل مصرع إسرائيلي واحد إلى حالة من الغضب والاحتقان والاستنفار. وهذا الوضع مناف للقيم الإنسانية التي يُفترض أن تساوي بين البشر جميعا بدون استثناء.
المطلوب هنا أن تكون مقاطعة الاحتلال أولى خطوات رفضه، وليست آخرها. فالاحتلال مرفوض وفق القوانين الدولية التي توفر لمن يقاومه غطاء سياسيا وقانونيا. هذه المقاطعة يجب أن لا تكون شكلية أو هامشية، بل يجب أن تنطلق مع عمق الوجدان الإنساني. فالاحتلال تنجم عنه أمور لا تستقيم مع القيم الإنسانية، على رأسها تهجير السكان الأصليين من أوطانهم وقطع وشائجهم مع أرضهم الأم. كما ينجم عنه عادة إخلال بالأوضاع الإنسانية، فيصبح الإنسان المستقر في منزله، بين أهله وجيرانه، مشرّدا يبحث عن أرض آمنة تؤويه. وهذا اعتداء صارخ على إنسانية الإنسان وقيمه وحقوقه. كما ينجم عنه فرض واقع سياسي جديد كثيرا ما يكون غير منسجم مع ما يسود المنطقة من ثقافة وتاريخ وأطباع. ولذلك بقي الاحتلال الإسرائيلي على مدى ثلاثة أرباع القرن، غريبا عن الأمّة المحيطة بفلسطين، سياسيا ودينيا وأخلاقيا. ولم تستطع كافة محاولات التطبيع اختراق الجدار النفسي الذي قام على أسس من الشعور بالظلامة والخذلان الدولي والعربي والعجز عن استرداد الحق السليب. ولم تفلح محاولات التطبيع معه، وما أكثرها. كما لم تحظ محاولات استجداء السلام معه بقبول شعبي واسع، بل أن التحدّي كان سمة الموقف الشعبي دائما. وتكفي الإشارة إلى قوافل الصمود التي انطلقت بهدف توفير الغذاء والدواء لأهل غزة المحاصرين. فلم يسع المشاركون فيها لاستحصال إذن من أحد ولم يطلبوا حماية من الآخرين، بل ذهبوا بمحض إرادتهم بهدف كسر الحصار، وأجبر المحتلّون على تحاشي المصادمة معهم، برغم محاولاتهم العدوانية العديدة.
إن المقاطعة أسلوب مؤثر لإبقاء قضية فلسطين حاضرة في المشهد الدولي، وإذا كانت حادثة غلاستونبري قد ساهمت في ذلك بشكل كبير، فإن مقاطعة الاحتلال اقتصاديا عبر مشروع المقاطعة العربية، وسياسيا بعدم إقامة العلاقات معها، وثقافيا بكافة الأساليب، ضرورة لدعم شعب فلسطين.
نقلا عن القدس العربي











