السترات الصفراء: أيّ كوامن للأحمر والأزرق والأخضر؟

صبحي حديدي

لعلّ من فرائض أيّ نقاش معمق حول ظاهرة السترات الصفراء الابتداء من المعطيات الملموسة، الصلبة من حيث وضوحها، والهيكلية من حيث مكوّناتها؛ والتي لا يصحّ إغفالها لصالح أيّ تجيير أو تهويل أو اختزال، في آن معاً. وبهذا المعنى فإنّ تجيير الظاهرة لصالح هذه الفئة الاجتماعية أو تلك، كالقول بـ«يقظة الطبقة العاملة»، أو «ائتلاف الريف والمدينة»، أو «ثورة الطبقة الوسطى»؛ يتوازى مع تهويل مضامينها ضمن مقولات مثل «عودة الصراع الطبقي» أو «إحياء قطبية اليسار/ اليمين»، أو «إياب الإيديولوجيا»؛ وقد ينتهي إلى اختزالها في حكاية الثورة على الضرائب، أو حتى المطالبة بمزيد من الديمقراطية المباشرة.
أولى المعطيات أنّ الظاهرة بدأت، بالفعل، من الاحتجاج الشعبي ضدّ إجراءات ذات محتوى ضريبي محدد، هو فرض ضريبة إضافية على وقود الديزل ورسوم الفحص الفني للآليات؛ مما يُثقل كاهل الفئات الشعبية في المقام الأول، وخاصة في الأرياف والضواحي وهوامش المدن، التي تعتمد على ذلك الوقود وتلك المركبات. مبرر حكومة إدوار فيليب كان، مع ذلك، يتماشى ــ من حيث الشكل، في المقام الأول ــ مع سياسة الحفاظ على البيئة، بالنظر إلى أنّ الديزل، فضلاً عن تقنية العوادم في المركبات القديمة، في طليعة العناصر الملوّثة للبيئة. ذلك بعض السبب في أنّ تظاهرات السترات الصفراء الأولى لم تحظ بالتفاف شعبي واسع في البداية، بل توفرت تعليقات سياسية وأكاديمية (في صفوف الخضر والمدافعين عن البيئة، مثلاً) تغمز من قناة الحركة، وترى فيها ارتداداً عن مكاسب بيئية، ونزعة «رجعية»!
وأمّا من حيث المحتوى، فإنّ هذه الضرائب كانت تندرج، تلقائياً وبجلاء أقصى، في قلب الفلسفة النيو ــ ليبرالية التي اعتنقها، وأعلن عنها، المرشح الرئاسي إيمانويل ماكرون في برنامجه الانتخابي؛ بل كانت «البصمة» الشخصية التي دفعته إلى مغادرة وزارة الاقتصاد في حكومة مانويل فالس، خلال عهد الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند. أبرز خطوط تلك البصمة كان ذلك المزج البارع بين اليسار (في شؤون الحقوق المدنية العامة، بصفة خاصة)؛ واليمين (في الاقتصاد والسياسات الضريبية، جوهرياً)؛ والوسط (في الملاحة بين قطبَيْ الاشتراكية الفرنسية واليمين الديغولي)؛ وإرث سنوات من العمل المصرفي المعولَم، أكسبه ثقافة مالية روتشيلدية بامتياز. البعض لمس فيه شخص بونابرت، لجهة توحيد متناقضات فرنسا والسباحة فوق كلّ الامواج المتلاطمة؛ والبعض الآخر (وكاتب هذه السطور في عدادهم) رأى فيه شخص الحالم بإعادة إنتاج مرغريت ثاتشر تارة، وتوني بلير طوراً، ولكن في فرنسا اليعاقبة والثورات الاجتماعية العارمة.
المعطى الثاني هو أنّ ما بدأ في صيغة احتجاج ضريبي، وقابلته الحكومة باللامبالاة الواضحة، وتجاهله ماكرون طيلة أسبوعين على الأقلّ؛ اكتسب سريعاً سلسلة أبعاد اجتماعية، توسعت وتنوعت وتشابكت حتى أنها لم تعد تبدأ من حكاية الضرائب؛ ولهذا لم تكن تنازلات رئيس الحكومة، في تأجيل فرض الضرائب ستة أشهر، كافية لتهدئة الخواطر. وهذا، في ذاته، أسبغ على المشهد تعقيدات اجتماعية وسياسية بدت جديدة، بالفعل، على معظم سوابق الاحتجاج الشعبي الواسع في تاريخ فرنسا الحديث؛ فاختلطت الطبقات، العاملة والوسطى والفلاحية، وكذلك بما يصحّ تصنيفه تحت مسمى البرجوازية الصغيرة؛ بأبناء الريف الزراعي، والضواحي، وبما يصحّ أيضاً تصنيفه تحت مسمى «أحزمة البؤس»، حول المدن الكبرى والمتوسطة؛ وتقاطرت النقابات المختلفة، الممثلة للفئات الاجتماعية كافة، على اختلاف توجهاتها العقائدية، إلى خطب ودّ المتظاهرين؛ وسعى إلى امتطاء الحشود عناصر الأحزاب المختلفة، من اليسار واليسار المتشدد إلى اليمين واليمين المتطرف، دون أيّ مقدار ملموس من النجاح في محاولات تصدّر الظاهرة.

اختلطت الطبقات، العاملة والوسطى والفلاحية، بأبناء الريف الزراعي، والضواحي، حول المدن الكبرى والمتوسطة؛ وتقاطرت النقابات المختلفة، الممثلة للفئات الاجتماعية كافة، على اختلاف توجهاتها العقائدية، إلى خطب ودّ المتظاهرين

الألوان المختلفة، أحمر اليسار وأزرق اليمين وأخضر الخضر، تظللت استطراداً باللون الأصفر وموشور المطالب العريض الذي أخذ يتسع لكلّ طيف، تقريباً؛ دون أن يتبلور، بالمعنى الدقيق وبالمقدار الكافي، في لائحة إجماع واحدة، أو موحدة بنسبة جلية. من غير المعقول، منطقياً، وعلى سبيل المثال الأول، أن يتظاهر اليمين الديغولي ضدّ الفلسفة النيو ــ ليبرالية للرئيس ماكرون، خاصة وأنّ وزير الاقتصاد في الحكومة الراهنة ابن سابق (يصرّ أنه ما يزال يقيم) في العائلة الديغولية؛ أو، في مثال ثانٍ، أن يتظاهر الخضر دفاعاً عن الإبقاء على الديزل والعوادم الملوِّثة للبيئة؛ أو يعفّ حزب مارين لوبين عن الاندساس، بقوّة وزخم، في صفوف لا تحتج على الهجرة، ولا تأتي على ذكر الأجانب والمسلمين واللحم الحلال، ولا ترفع صورة جان دارك! ولعل هذا المعطى الثالث هو في صلب رهان ماكرون على انسياق الحركة نحو التشرذم، ابتداء من ازدحام المطالب، وصولاً إلى الافتراقات حول هذا أو ذاك من المضامين العقائدية للمطالب.
غير أنّ هذا الاعتبار هو، تحديداً، ما يصنع المعطى الرابع: إمكانية أن يكتسب حراك السترات الصفراء ديمومة طويلة الأمد، كفيلة باستدراج المزيد من الفئات الاجتماعية (الطلاب، النساء، المهن الاختصاصية)؛ المتضررة، على نحو أو آخر، من البرامج النيو ــ ليبرالية للحكومة؛ أو المتطلعة، على نحو مشروع تماماً في الواقع، إلى توظيف مناخات السخط الشعبي الواسعة بغية انتزاع المزيد من التنازلات. وفي أبسط قراءات علم الاجتماع المعاصر للفلسفة الليبرالية عموماً، ولطبعاتها المتوحشة كما رفع لواءها أمثال فردريش هايك وملتون فردمان وجيمس بوكانان، خصوصاً؛ ثمة تلك المفارقة الدائمة في وجهة النظر إلى ركائز ليبرالية كبرى مثل اقتصاد السوق والتقشف وخفض الدعم الحكومي والتجارة الحرة: أن يُنظر إليها من زاوية تقدمية، تُعلي المحتوى الاجتماعي وتفرض الرقابة على رأس المال وتساند قطاعات الدولة؛ أو من زاوية رجعية، تقف على نقيض المكاسب الاجتماعية، ولا تُعلي أيّ شأن فوق حرية رأس المال في تكديس الأرباح مع تقديم الفتات فقط لخدمة الاجتماع الإنساني. وأياً كان الموقف النقدي من خيارات ماكرون النيو ــ ليبرالية، فإنّ من الخطأ وضعها على قدم المساواة مع خيارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مثلاً، الأمر الذي يُفضي بحراك السترات الصفراء إلى مآزق الاختيار إذا ما قُدّمت تنازلات ملموسة؛ مثل تلك التي عرضها ماكرون في خطابه الأخير، ولعلها أقصى ما يستطيع تقديمه إذا شاء الحفاظ على جوهر برنامجه في الحكم.
المعطى الأخير، الذي يتجاوز سلسلة الأبعاد المتشابكة خلف الظاهرة، فهو ذاك الذي ألمح إليه ماكرون في إشارته إلى النقطة الخامسة على جدول أعمال النقاش الوطني، ما بعد هدوء أنواء الاحتجاج. فإلى جانب التحويل البيئي، والمسألة الضريبية، وقطاع الخدمات العامة، وتطوير النقاش الديمقراطي؛ أضاف ماكرون «مسألة الهجرة»، قائلاً: «أريد أيضاً أن نجعل الأمّة تتوافق مع نفسها حول ماهية هويتها العميقة». وبمعزل عن دغدغة مشاعر جمهور اليمين المتشدد، المتظاهر ضمن صفوف السترات الصفراء أو الكامن في موقع المراقبة والانقضاض، ثمة سعي خطير من جانب قصر الإليزيه لزجّ الظاهرة في سجال جانبي حول الهوية، أثبتت السوابق أنه قادر على إلهاء شرائح واسعة من الجمهور، وكفيل بحرف أيّ نقاش سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي نحو مقاصد منفصلة عن جوهر الحوار. وكان لافتاً أنّ ماكرون حشر هذه النقطة الخامسة بعد أقلّ من 24 ساعة أعقبت موافقة فرنسا على «ميثاق مراكش» حول الهجرة، الذي اقترحته الأمم المتحدة وتبناه ممثلو 150 دولة.
وفي كلّ حال، لعلّ الأسابيع القليلة المقبلة، أيام السبوت على وجه التحديد، سوف تحمل المزيد من الوضوح اللوني، إذا جازت الاستعارة؛ حول ما يكمن في قلب الأصفر الراهن من ألوان حمراء أو زرقاء أو خضراء، أو… ما يفرزه اندماج لونين من لون ثالث وليد!

القدس العربي

جمعة, 14/12/2018 - 12:14