تعيش سوريا اليوم واحدةً من أكثر اللحظات حساسية في تاريخها الحديث: انطلاق العملية الانتخابية التشريعية الأولى في ظل سوريا الجديدة. هذه ليست مجرد انتخابات دورية بالمعنى التقليدي، وإنما هي تجربةٌ تأسيسية لإعادة تعريف السياسة نفسها بعد عقود طويلة من الانغلاق السلطوي. إنها لحظة اختبار، لا لآليات الاقتراع فحسب، وإنما لوعيٍ جمعيٍ تشكّل في رحم الثورة والتحولات الكبرى التي حايثتها ونتجت عنها، ولقدرة هذا الوعي على التكيف مع متطلبات بناء مؤسسات راسخة. ما يحدث اليوم، باختصار، هو بدايةٌ أولى وصغيرة، لكنها حاسمة استراتيجياً، لمرحلة التحول الديمقراطي، حيث يتم الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية المكتسبة عبر صناديق الاقتراع.
وأول ما يلفت النظر في هذه اللحظة هو المفارقة بين الزهد الشعبي العام في مقابل الاندفاع المحموم لقوى «الفلول» من أنصار النظام السابق لجهة الاهتمام والمشاركة. فالكثير من السوريين، حتى من المتعاطفين مع مسار الدولة الجديدة، لا يزالون أسرى الثقافة السياسية القديمة التي طُبعت في عقولهم خلال ستة عقود، حيث لم تكن السياسة إلا مشهداً مصطنعاً وقراراً فوقياً. هذه اللامبالاة ليست، بالضرورة، دليلاً على رفضٍ واعٍ بقدر كونها انعكاساً لعجز المخيلة الشعبية عن استيعاب الجديد بهذه السرعة، خاصةً بعد أكثر من ستة عقود على رسوخ القديم. في المقابل، أدركت قوى الفلول ـ بتجربتها الطويلة ـ أهمية المجلس النيابي القادم أكثر من غيرها. فسعت بكل الوسائل لاختراقه، بعملٍ منظم وتنسيق خفي، كما تفعل القوى المضادة في كل تجارب الانتقال السياسي. وهنا يتبدى معنى الشرعية التمثيلية، فالمقاعد القادمة ليست مجرد كراس، وإنما هي أدوات لصياغة المجال السياسي بأكمله. وتركُ الساحة فارغةً لا يعني سوى السماح لخصوم التجربة بأن يملؤوها، وهو ما يحوّل فرصة الانتقال إلى تهديد مباشر. فالمبادرة إلى المشاركة ليست، هنا، مجرد خيار، وإنما هي التعبير العملي عن الإرادة الحرة بعد طول مصادرة، وهي الشرط الفلسفي والسياسي معاً لحماية المجال العام الوليد.
وعليه، ثمة حاجةٌ، أقربَ لأن تكون وجودية، ليقتنع السوريون بأن خوض الانتخابات ليس تكراراً لمشهدٍ قديم، وإنما هو تجربةٌ «تأسيسية» مختلفة، تسعى لإعادة تعريف السياسة في حياة السوريين. يصدق هذا تحديداً على أهل الفكر والكلمة الذين تزخر بهم البلاد! فالترشح اليوم ليس هروباً من عالم الفكر إلى عالم السياسة، وإنما استمرارٌ له في شكل جديد، وداخل هامشٍ أوسع يجمع النظر بالعمل، ويفتح أفق الفعالية والإنجاز. فالمثقف لا يتخلى عن أدواته حين يترشح، بقدر ما يأخذ معه رصيد الفكر والخبرة إلى ساحة الممارسة. وما يُقال عادةً إن «المثقف لا يصلح لممارسة السياسة» ربما يجد في سوريا الجديدة استثناءً تاريخياً جديراً بأن يُكتب، وبحيث يثبت أن الفكر يمكن أن يصبح مؤسسة، وأن السياسة يمكن أن تكون امتداداً للفكر لا نقيضاً له.
وفي تقديرنا أن هذه المقولة لم تعد تنظيراً مجرداً، وإنما تتحول اليوم إلى مشروع عملي: فالمجلس النيابي الجديد يمكن أن يكون تجربة غير مسبوقة، حيث يتساوق الإبداع السياسي مع الإبداع الفكري، بما يؤسس لبرلمانٍ لا يقل أصالة وفرادة، في مقياس الأداء العام، عن فرادة أداء السلطة التنفيذية بقيادة الرئيس أحمد الشرع. بهذا المعنى، لا يعود الترشح مجرد خطوةٍ شخصية بقدر كونه محاولة لبناء سلطةٍ تشريعيةٍ وطنية موازية للسلطة التنفيذية في دورها، ومكملة لها في مشروع إعادة تأسيس الدولة.
لكننا نبقى، في معرض دراسة التعقيد، وعلى المستوى الاجتماعي والنفسي، أمام ما يمكن تسميته بمحنة الحرية الأولى. فبعد عقود من الإقصاء، تبدو طموحات سوريي الثورة وكأنها انفجرت دفعة واحدة. فهناك مئات الآلاف ممن يعتبرون أنفسهم ثواراً، ويرون أن لهم الحق الطبيعي في الترشح لبرلمان لا يتجاوز 210 مقاعد. وكل واحد منهم محاط بدائرة أصدقاء ومناصرين تمنحه شعوراً بالجدارة الوطنية. والنتيجة فيضٌ من الطموحات الفردية يفوق أي قدرة مؤسسية، ليس فقط على الاستيعاب، وإنما أيضاً على الضبط والتنظيم. وهذه الظاهرة تعكس أزمة التنشئة السياسية، حيث لم يمر المجتمع بمرحلة تدريجية لتعلم قواعد اللعبة الديمقراطية، فاندفع مباشرة من الصمت إلى انفجار يتمثل في ضجيج الاعتراضات والاحتجاجات والانسحابات، وبيانات التضامن والتأييد مع المعترضين والمحتجين والمنسحبين. مع كل الملابسات الثقافية والإعلامية التي تنتج عن مثل ذلك الاشتباك!
إلى ذلك كله، قد يمكن، من زاوية فلسفية وتاريخية، قراءة هذه الظاهرة عبر ابن خلدون. فبينما لم تترسخ بعد العصبية الجامعة للدولة الجديدة، برزت العصبيات الصغيرة ـ حزبية أو شللية أو مناطقية ـ لتملأ الفراغ. وهذه، في علم الاجتماع السياسي، مرحلة انتقالية طبيعية، حيث تتنافس الولاءات الجزئية قبل أن تنصهر تدريجياً في ولاء وطني جامع. إنها مرحلة تفكك العصبيات الأولية وإعادة تشكيلها ضمن هويةٍ سياسية عليا. وهذا يحصل في لحظةٍ تأسيسية تتسم بالفوضى الانتقالية، لكنها فوضى بنّاءة إن جرى استيعابها وتوجيهها نحو مسار مؤسسي.
الجدير بالذكر هنا أن ثمة درجةً من التبسيط والاختزال في تحميل الدولة وحدها مسؤولية كل الارتباكات، إذا أردنا التعامل مع الظاهرة، بشمولها، وبمنطقٍ يجمع لغة العلم ومعرفة الواقع. فالانتخابات ليست مجرد إجراءات إدارية، وإنما هي اختبار لمجتمعٍ يخطو خطواته الأولى في السياسة. وما واجهته اللجان الفرعية من صعوبات ـ تضارب مصالح، صراعات محاور، انسحابات، تقارير كيدية ـ كبيرٌ بشكلٍ ملحوظ. ومع ذلك، فإن هذه التحديات ليست صناعة الدولة بقدر كونها انعكاساً لحيوية المجتمع الناشئ. هنا يظهر مفهوم الحوكمة الانتقالية، حيث تكون مسؤولية تنظيم العملية السياسية موزعة بين الدولة والمجتمع المدني والقوى الاجتماعية، ضمن إطارٍ من الشراكة والمساءلة.
بالإجمال، قد تبدو جوانب الفوضى في مشهد الانتخابات السوري مربكةً في عيون البعض، لكنها في العمق مؤشرُ صحة وحيويةٍ سياسية مبكّرة، وتحديداً في مجتمع الثورة السوري، أكثر منها في عموم المجتمع. فالأمم لا تُبنى بالصمت والعزوف، وإنما بالحضور والمشاركة. وحتى حين تأتي هذه المشاركة في صور متشابكة وصاخبة، فإنها أفضل بكثير من الفراغ السياسي. والمشهد الحالي، بكل تناقضاته، يعكس عودة السوريين إلى ساحتهم العامة بعد غياب طويل. وهو ما يسميه علماء السياسة التسييس الجماعي الذي يُعتبر مؤشراً على دخول أعداد واسعة من المواطنين إلى ساحة الفعل العام لأول مرة، بما يحمله ذلك من طاقةٍ وفوضى في آن واحد.
ويمكن النظر إلى نتائج الانتخابات في مدينة حلب، الكبرى والعريقة، كنموذجٍ كاشفٍ لاتجاهات المزاج السياسي السوري في هذه المرحلة الانتقالية. فوفقاً لقراءاتٍ تحليلية دولية، من بينها سلسلة التغريدات التي نشرها الباحث الفرنسي سيدريك لابروس، تبدو حلب وكأنها قدّمت لوحة سياسية متوازنة تؤكد أن الناخب السوري بدأ يتجه تدريجياً نحو الاعتدال البراغماتي بعد سنواتٍ من الاستقطاب الحاد.
إذ لم تُفرز الانتخابات في المدينة شخصياتٍ متشددة أو من التيارات العقائدية الصلبة، بل إن الكفة مالت بوضوحٍ لصالح التيار المحافظ المعتدل والليبراليين الاقتصاديين، وهو ما يعكس وعياً متنامياً لدى الناخبين بأولوية الاستقرار والتنمية على الشعارات الأيديولوجية. فالمشهد الحلبي، كما أشار لابروس، خالٍ تقريباً من الانتماءات الصلبة التي ميزت المراحل السابقة، وجاءت الشخصيات المنتخبة أقرب إلى النهج المؤسساتي الجديد للدولة، حيث تتقدّم الكفاءة والخبرة على الانتماء الضيق.
ورغم أن بعض التيارات المنظمة، كالإخوان المسلمين، نجحت في إيصال عدد محدود من الحلفاء إلى المجلس، غير إنها لم تحقق النتائج التي كانت تأملها. وهو ما يشير إلى بداية انحسار تأثير البنى الأيديولوجية التقليدية أمام صعود نخب جديدة تُمثّل مزيجاً من الحسّ المدني والقدرة التنفيذية. أما الملاحظة الأبرز، فتكمن في أن الرئيس أحمد الشرع، حسب لابروس، يتهيأ لبرلمانٍ يغلب عليه الطابع الوطني التوافقي، بعيداً عن التيارات الأيديولوجية الضيقة، بما يسمح له بإطلاق مرحلةٍ تشريعيةٍ أكثر توازناً وانفتاحاً.
إن قراءة نتائج الانتخابات في حلب لا ينبغي أن تُفهم بمعزلٍ عن السياق الوطني العام، وإنما بوصفها نموذجاً مصغّراً للتحول السوري الأكبر. فكما بدأت حلب تُعيد تعريف السياسة المحلية على قاعدة الكفاءة والاعتدال، ثمة شواهد على أن البلاد بأكملها تدخل طوراً جديداً من إعادة هندسة الحياة العامة، تُختبر فيه مفاهيم المواطنة، والمشاركة، والمساءلة، لا كشعاراتٍ، وإنما كممارساتٍ مؤسسيةٍ تتجذر يوماً بعد يوم.
بهذه الروح، تبدو سوريا الجديدة وكأنها تتدرّب على ممارسة الديمقراطية من داخل التجربة نفسها، لا من على منصات التنظير. فكل صندوق اقتراع، وكل دائرة انتخابية، وكل نقاشٍ حول النتائج، هو جزء من عمليةٍ طويلةٍ لإعادة بناء المجال العام بعد عقودٍ من التكلّس السياسي. وما انتخابات اليوم إلا مقدمة عملية لإرساء ثقافة الدولة الحديثة التي تتعلّم كيف تستمع إلى مواطنيها، وكيف تُدير تنوّعها من دون خوف، وكيف تحوّل اختلافها إلى مصدر قوّةٍ وتجدّد.
نقلا عن القدس العربي











