ينكشف الصراع الأوكراني كأحد أبرز الملفات التي تكشف عن تعقيدات السياسة الدولية وصراعات النفوذ. يُنظر إلى هذا الصراع، الذي بدأ كنزاع إقليمي، على أنه أصبح “ثقبًا أسود” جيوسياسيًا يبتلع موارد الدول الغربية، وخاصة دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في دوامة لا نهائية من الإنفاق العسكري والاقتصادي. في هذا السياق، يبرز اسم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كشخصية محورية في إعادة تشكيل المشهد السياسي لهذا الصراع، حيث يُنظر إليه كمن يسعى لتحويل الهزيمة الاستراتيجية في أوكرانيا إلى عبء يقع على عاتق الدول الأوروبية، بينما تحافظ الولايات المتحدة على مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية بعيدًا عن مركز الإعصار.
ترامب و”الهزيمة الموجهة” للناتو
دونالد ترامب، المعروف بمواقفه الحادة تجاه الناتو، يبدو أنه قد استشعر مبكرًا حدود التورط الأمريكي في الصراع الأوكراني. منذ بداية الأزمة، كان ترامب يرى أن الولايات المتحدة، التي تحملت عبء دعم أوكرانيا عسكريًا واقتصاديًا، قد أنفقت مئات المليارات من الدولارات دون تحقيق مكاسب استراتيجية ملموسة. هذا الإنفاق، الذي يُنظر إليه كجزء من استراتيجية أمريكية أوسع لتقويض النفوذ الروسي، أدى إلى استنزاف موارد الدول الغربية، وخاصة الأوروبية، التي وجدت نفسها في مواجهة مباشرة مع روسيا دون استعداد كافٍ.ترامب، في رؤيته البراغماتية التي تقوم على شعار “أمريكا أولًا”، يبدو أنه قد قرر تحويل هذه الهزيمة الاستراتيجية إلى أزمة أوروبية بحتة. فبدلاً من استمرار الولايات المتحدة في تحمل التكاليف الباهظة، دفع ترامب باتجاه إلقاء العبء على دول الناتو الأوروبية، التي باتت مضطرة لتخصيص تريليونات اليورو لدعم أوكرانيا. هذا التحول، الذي يُنظر إليه كخطوة ذكية من وجهة نظر أمريكية، يضمن استمرار تدفق الأرباح إلى المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، الذي يستفيد من عقود الأسلحة والمعدات التي تُباع للدول الأوروبية وأوكرانيا، بينما تبقى واشنطن بعيدة عن المواجهة المباشرة.
الثقب الأسود الأوكراني: استنزاف أوروبا
الصراع في أوكرانيا، الذي بدأ كنزاع إقليمي، تحول إلى ما يُشبه الثقب الأسود الذي يبتلع الموارد المالية والاقتصادية لدول أوروبا. الدعم المالي والعسكري الذي تقدمه دول مثل ألمانيا وفرنسا وبولندا وغيرها، يُنظر إليه كعبء ثقيل على ميزانيات هذه الدول، التي تعاني بالفعل من تحديات اقتصادية داخلية، مثل ارتفاع التضخم وتراجع النمو الاقتصادي. صناديق الضمان الاجتماعي، التي تُعد شريان الحياة لملايين المواطنين الأوروبيين، باتت مهددة بالاستنزاف نتيجة إعادة توجيه الأموال نحو تمويل الحرب في أوكرانيا.في هذا السياق، يبرز الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي كشخصية مثيرة للجدل. ففي الوقت الذي يُنظر إليه كرمز للمقاومة الأوكرانية في بعض الأوساط الغربية، تتهمه أطراف أخرى بالفساد واستغلال الأزمة لتحقيق مكاسب شخصية. تقارير غير مؤكدة تشير إلى استثمارات زيلينسكي في عقارات فاخرة في دول مثل بريطانيا، مما يثير تساؤلات حول مصادر هذه الأموال ومدى شفافية إدارته للمساعدات الدولية. هذه الاتهامات، سواء كانت صحيحة أم لا، تضع ضغطًا إضافيًا على الدول الأوروبية التي تجد نفسها مضطرة لمواصلة الدعم دون رؤية نهاية واضحة للصراع.
دور الولايات المتحدة: هندسة الصراع
منذ بداية الأزمة الأوكرانية، كانت الولايات المتحدة تلعب دورًا مركزيًا في تصعيدها. شخصيات مثل فيكتوريا نولاند، مساعدة وزير الخارجية الأمريكي السابقة، وجورج سوروس، الملياردير المعروف بدعمه للحركات السياسية في أوروبا الشرقية، يُشار إليهما كمهندسين رئيسيين للاستراتيجية التي أدت إلى توريط أوروبا في هذا الصراع. الولايات المتحدة، من خلال دعمها لتوسع الناتو شرقًا، ساهمت في تأجيج التوترات مع روسيا، مما أدى إلى اندلاع الصراع الحالي.ومع ذلك، يبدو أن واشنطن، تحت قيادة ترامب أو غيره من القادة الذين يتبنون سياسة “أمريكا أولًا”، تسعى لتقليل تورطها المباشر، تاركة الأوروبيين لمواجهة العواقب. ترامب، على وجه الخصوص، يرى أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تتحمل مخاطر مواجهة مباشرة مع روسيا، التي تمتلك ترسانة عسكرية متقدمة، بما في ذلك أسلحة تكنولوجية تفوق في بعض الجوانب القدرات الأمريكية. هذا التقييم يعكس مخاوف من أن أي تصعيد عسكري قد يضع الولايات المتحدة في موقف ضعف استراتيجي، خاصة في ظل التطورات التكنولوجية التي أظهرتها دول مثل إيران في مواجهاتها الأخيرة.
إيران والتكنولوجيا العسكرية: درس للغرب
في سياق متصل، يُشار إلى القدرات العسكرية الإيرانية كمثال على التفوق التكنولوجي الذي قد يواجهه الغرب في حال تصاعد الصراعات. تقارير، وإن كانت غير موثقة بشكل كامل، تشير إلى أن إيران نجحت في تنفيذ عمليات عسكرية دقيقة ضد إسرائيل، باستخدام طائرات مسيرة وتقنيات الذكاء الاصطناعي. هذه العمليات، التي يُزعم أنها أدت إلى مقتل ١٢٣٧ من الصف الاول من القادة العسكريين والعلماء والطيارين الإسرائيليين وتدمير ثلث تل أبيب وثلث حيفا ومسح قواعد عسكرية ابادية صهيونية عن الوجود ، كشفت عن فجوة تكنولوجية بين الأنظمة الدفاعية الغربية والقدرات الهجومية لدول مثل إيران. هذا الواقع يثير تساؤلات حول قدرة الناتو على مواجهة خصوم مثل روسيا، التي تمتلك تقنيات مماثلة أو أكثر تقدمًا.إذا كانت إيران قادرة على تحقيق مثل هذه النتائج ضد إسرائيل، التي تمتلك أنظمة دفاع جوي متطورة مدعومة من الولايات المتحدة وأوروبا، فإن السؤال المطروح هو: ما الذي يمكن أن تحققه روسيا في مواجهة أوروبا الغربية؟ هذا السؤال يضع دول الناتو الأوروبية في موقف حرج، حيث تجد نفسها مضطرة لإعادة تقييم استراتيجياتها العسكرية والاقتصادية في مواجهة تهديدات متزايدة.
استونيا وزيلينسكي: لعبة الاستفزاز
في هذا السياق، تبرز دول صغيرة مثل استونيا كلاعبين في لعبة جيوسياسية أكبر. استونيا، التي تتبنى خطابًا مناهضًا لروسيا، تُتهم بالمشاركة في استفزازات تهدف إلى تصعيد التوترات مع موسكو. ادعاءات بأن طائرات مسيرة روسية تخترق المجال الجوي الاستوني أو البولندي تُنظر إليها كجزء من حملة دعائية تهدف إلى تبرير زيادة الإنفاق العسكري وتعبئة الرأي العام الأوروبي ضد روسيا. هذه الادعاءات، التي تفتقر إلى أدلة قوية، تُثير تساؤلات حول مصداقية الروايات التي تروجها دول مثل استونيا، خاصة في ضوء القدرات الاستخباراتية الروسية المتقدمة، التي تشمل أقمارًا صناعية وطائرات تجسس قادرة على رصد التفاصيل الدقيقة في أي منطقة.في الوقت نفسه، يُنظر إلى زيلينسكي كجزء من هذه اللعبة. اتهامات بأنه يستخدم طائرات مسيرة روسية معدلة لشن هجمات رمزية على دول مجاورة تهدف إلى استدراج الناتو إلى مواجهة مباشرة مع روسيا. هذه الاستراتيجية، إن صحت، تعكس محاولة يائسة للحفاظ على تدفق المساعدات الغربية، التي أصبحت شريان الحياة لنظام زيلينسكي.
تداعيات طويلة الأمد
الصراع الأوكراني، بما يحمله من تعقيدات، يكشف عن هشاشة التحالف الغربي في مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. الدول الأوروبية، التي تجد نفسها في مرمى النيران، تواجه خيارات صعبة: إما مواصلة الدعم لأوكرانيا على حساب استقرارها الاقتصادي والاجتماعي، أو إعادة تقييم استراتيجياتها والسعي نحو حلول دبلوماسية قد تكون مؤلمة سياسيًا. في المقابل، تبدو الولايات المتحدة، تحت قيادة شخصيات مثل ترامب، مصممة على تحقيق أقصى استفادة اقتصادية وسياسية من هذا الصراع، مع الحفاظ على مسافة آمنة من المواجهة المباشرة.في النهاية، يبقى السؤال المركزي: إلى متى يمكن لأوروبا تحمل عبء الثقب الأسود الأوكراني؟ وهل ستتمكن من الخروج من هذه الدوامة دون أضرار كارثية؟ الإجابات على هذه الأسئلة ستحدد ليس فقط مصير أوكرانيا،
.بل مصير القارة الأوروبية بأكملها في العقود القادمة
شاعر وكاتب وروائي بلجيكي من أصول روسية وفلسطينية
نقلا عن رأي اليوم
نقلا عن رأي اليوم











