الإعتراف القاتل: كيف تحوّلت فلسطين إلى إنقاذ الكيان الصهيوني؟

د. ميساء المصري

في مشهد سياسي مُتخم بالتناقضات والمراوغات ،تسابقت بعض القوى الغربية إلى الاعتراف بـ”دولة فلسطينية” وهمية، تارة بدعوى إنعاش “حل الدولتين”، وتارة لإمتصاص الغضب الشعبي المتصاعد في شوارع أوروبا وأمريكا. هذا “الإعتراف”، الذي قُدّم على أنه انتصار رمزي للفلسطينيين، ليس سوى فخٍّ سياسي محبوك، يُراد منه إعادة تشكيل مشهد الشرعية على المسرح الدولي، في لحظة بات فيها الكيان الصهيوني محاصرًا أخلاقيًا وشعبيًا بعد سنوات من الجرائم والإبادة في غزة والضفة الغربية.

ففي أيار(مايو) 2025، أعلنت إيرلندا وإسبانيا والنرويج  ومن بعدهم بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا  “الإعتراف الرسمي” بدولة فلسطين. خطوة تبدو  للوهلة الأولى كإستجابة متأخرة لمأساة مستمرة منذ أكثر من سبعة عقود. لكن هذا الإعلان، بدلاً من أن يكون دعمًا للفلسطينيين، كان طوق نجاة سياسيًا وأخلاقيًا للكيان الصهيوني. فقد جاء الإعتراف مشروطًا، مجتزأً، ومفرغًا من أي مضمون سيادي، في ظل استمرار الإحتلال، والعدوان، والإستيطان، والتطهير العرقي، وغياب أدنى مظاهر الإستقلال السياسي أو السيادة الجغرافية على الأرض الفلسطينية.

المفارقة الصارخة هي أن هذه الدول نفسها، التي زعمت نصرة فلسطين، لم توقف تصدير السلاح للكيان الصهيوني، ولم تُدن جرائمه، بل واصلت تغطيتها سياسياً وإعلامياً وعسكريًا. بل إن بعضها، كما في حالة بريطانيا وفرنسا، أعلنت نيتها فرض عقوبات جديدة على حركة حماس والمقاومة، كشرط مسبق “للإعتراف الكامل” بفلسطين. هذا الإعتراف إذن، لم يكن إلا جزءًا من هندسة سياسية تهدف إلى عزل المقاومة وتجريدها من شرعيتها، وإعادة إنتاج السلطة الفلسطينية المهترئة كوكيل وظيفي، أشبه ما تكون بـ”إدارة مدنية” تعمل تحت سقف الإحتلال.

الإعتراف الغربي المشروط لا يحمل أية التزامات تجاه إنهاء الاحتلال، ولا يتضمن دعوة صريحة لتفكيك المستوطنات، ولا ينص على عودة اللاجئين، ولا يطالب بالإفراج عن الأسرى، ولا يمنح الفلسطينيين السيطرة على مواردهم، ولا على المعابر، ولا حتى على هوائهم وطعامهم وأمنهم. إنه اعتراف شكلي، دعائي، استعراضي، أقرب إلى ضربةٍ سياسية مركّبة تهدف لتكريس الهزيمة كواقع أبدي، مقابل فتات “رمزي” من السيادة. إنه أشبه بإعتراف المستعمر بكيانٍ خاضع له، على شاكلة ما حدث مع السكان الأصليين في أمريكا وأستراليا، حيث أُقرّت لهم “دول” بلا حدود، ولا جيش، ولا سيادة، ولا اقتصاد.

 

فالدولة التي يُعترف بها اليوم، هي تلك التي نشأت في خيال “اتفاق أوسلو”، ومهمتها الأولى ليست حماية الشعب بل حماية المستوطن، وقمع المقاوم، والتنسيق الأمني مع الإحتلال. دولة تفرط بثوابت القضية، تتنازل عن القدس، وتقبل بتجزئة الأرض، وتتخلّى عن أكثر من ثلثي الشعب الفلسطيني  في الشتات وداخل أراضي 48  وتحصر التمثيل في شريحة محددة تدور في فلك المحتل. هي “دولة” بلا حدود، بلا سيادة، بلا قدرة على اتخاذ القرار، تُدار بالتنسيق مع “الشاباك” والموساد، وتُموّل بأموال المانحين الغربيين الذين يشترطون “محاربة الإرهاب” مقابل كل دولار.

إقتنعوا… الإعتراف الأوروبي محاولة مكشوفة لتحويل النقاش من جرائم الاحتلال إلى وهم “الحل السياسي”، ومن الإبادة الجماعية إلى بناء المؤسسات، ومن النكبة المتواصلة إلى مؤتمرات المانحين، ومن صوت الشارع الغاضب إلى قاعات البروتوكول والديبلوماسية العقيمة. وكان ذلك واضحا من تهديدات نتنياهو في قعر واشنطن لما سيحدث في حال عودته الى اسرائيل .

إذن تحوّل الإعتراف إلى أداة لتعويم الكيان الصهيوني وإعادة تسويقه في لحظة انهياره الأخلاقي، خصوصًا بعد فشل عدوانه على غزة، وعجزه عن كسر إرادة المقاومة، وانكشاف دوره الوظيفي في مشروع الهيمنة الغربية على المنطقة.

أما الشعوب الأوروبية التي كانت عامل ضغط على حكوماتهم ، و التي خرجت بالملايين دفاعًا عن غزة، فقد جوبهت بالقمع والمنع والمحاكمات، لمجرد رفع علم فلسطين أو التعبير عن التضامن. نُزعت الأعلام، حُظر جمع التبرعات، حُلّت الجمعيات، واعتُبر دعم فلسطين تهمةً سياسية تستدعي العقاب. وفي هذا السياق، يصبح من السخرية بمكان أن يأتي الإعتراف نفسه من حكومات تُجرّم التضامن، وتُجامل الجلاد، وتُساوي بين الضحية والمحتل، وتعتبر أمن إسرائيل أولوية استراتيجية، بينما أمن الشعب الفلسطيني خاضعٌ لاعتبارات وشروط وهواجس الاحتلال.

الاعتراف الغربي لا يفتح طريق التحرير، بل يكرّس الإنقسام ويُشرعن الإحتلال. إنه محاولة لتجويف وتقزيم جوهر القضية، بإفراغها من بُعدها التحرّري، وتحويلها إلى نزاع حدود أو مشكلة إنسانية، لا علاقة لها بالتحرر من استعمار استيطاني عنصري إحلالي. وما لم يُقترن هذا الإعتراف بقطع العلاقات مع دولة الإحتلال، وفرض العقوبات الاقتصادية والعسكرية عليها، ودعم المقاومة الفلسطينية بكل أشكالها، فإنّه لا يساوي الحبر الذي كُتب به.

المعركة ليست على دولة بلا سيادة، بل على تحرر فعلي، من النهر إلى البحر. على عودة اللاجئين، على تفكيك المستوطنات، على استعادة القدس، وعلى تفكيك الكيان العنصري الذي بُني على أنقاض وطنٍ وشعب. لذلك، لا يمكن التعويل على ما يُسمى السخاء السياسي للدول الإمبريالية، لأن تحرّر الشعوب لا يُمنَح، بل يُنتزع عبر المقاومة، وبدعم من القوى الحية في العالم، وفي طليعتها الجماهير التي بدأت تتحرر من هيمنة الإعلام الرسمي والنخب الفاسدة.

إن كل اعتراف لا يُسهم في تفكيك الإحتلال وتجريم الإستيطان وإنهاء الحصار ووقف المجازر ومحاسبة المجرمين و تفكيك نظام الفصل العنصري ، هو اعتراف باطل، يُكرّس الهزيمة، ويشرعن الاحتلال، ويُستخدم كورقة للتطبيع مع الجريمة وهو مجرد محاولة لحماية “إسرائيل” من السقوط الأخلاقي والسياسي، لا خطوة باتجاه الحرية.

. فليس المهم كم دولة تعترف بـفلسطين على الورق، بل متى يُنتزع هذا الإعتراف الحقيقي على الأرض، بتحريرها من المستعمرين، وبتحقيق السيادة الشعبية، وإقامة دولة حرّة على كامل التراب الوطني، من النهر إلى البحر، ودون ذلك، فإن كل الإعترافات ليست سوى ورقة توت أخلاقية لتجميل وحشية استعمارية مستمرة منذ أكثر من سبعين عامًا..

ختاما .إن الاعتراف الغربي بدولة فلسطين ليس تقدماً نحو الحل، بل فخ سياسي وأخلاقي يراد لنا أن نسقط فيه. المطلوب من القوى الحية و الشعوب و حركات التحرر،و من المناضلين حول العالم، أن يُفشِلوا هذه الخدعة، وأن يُعيدوا البوصلة إلى مكانها الصحيح، لا دولة بلا تحرير، ولا سلام بلا عدالة، ولا اعتراف بلا مقاومة…..

كاتبة سياسية من الأردن

نقلا عن رأي اليوم

أربعاء, 24/09/2025 - 17:46