من قلب الدوحة… تُعلِنها إسرائيل : الشرق الأوسط ساحة نار وسيادة بلا وزن

د. ميساء المصري

 (هذه رسالة لكل الشرق الأوسط) بهذه العبارة الخطيرة، علّق رئيس الكنيست الإسرائيلي، أمير أوحانا، على الهجوم الإسرائيلي الجوي الذي استهدف قادة حركة حماس في قلب العاصمة القطرية الدوحة. لكن هذه العبارة ليست مجرد تعليق على عملية عسكرية، بل رفع كامل للغطاء السياسي عن العملية، وتحويلها من ضربة أمنية إلى رسالة استراتيجية معلنة، تُبلِغ المنطقة بأسرها والخليج أولاً أن إسرائيل أصبحت، بالشراكة مع واشنطن، سيدة القرار في الإقليم.

ما قاله أوحانا هو تهديد صريح ومباشر لا يقبل التأويل، ويعكس عقيدة الردع الجديدة التي تتبناها تل أبيب، لا خطوط حمراء، ولا حصانات جغرافية، ولا حلفاء للغرب خارج حدود الإملاء الإسرائيلي. ببساطة، كل من يختلف معنا، يصبح هدفًا مشروعًا، حتى لو كان في قلب عاصمة صديقة تستضيف أكبر قاعدة عسكرية أمريكية.

 

ad

وهذا يقودنا إلى استنتاج خطير، لم تعد إسرائيل ترى في دول الخليج شركاء في الاستقرار، بل “ساحات مفتوحة للرسائل النارية”، وواشنطن تبارك بالصمت، و تشارك بالتواطؤ، وتسخر من العرب.

و لا تغفلوا ان الجريمة الإسرائيلية في قلب الخليج هي بداية عصر جديد من التسيّد العاري فهي ليس عملاً أمنياً تقليدياً، بل نقطة تحوّل مفصلية في قواعد الاشتباك الإقليمي تم فيها إحراج قطر عربيا ودوليا .ووضع  إسرائيل علنا في دائرة (لم تعد تُخفي نواياها)، بل تُعلنها بالقصف. لم يعد هناك تمييز بين الجغرافيا السياسية ومسرح العمليات والأخطر قلب الخليج اليوم أصبح مستباحاً بنيران تل أبيب، فمن يتحدى؟؟.

الضربة لم تكن تسريباً استخبارياً أو استهدافاً صامتاً، بل قصفًا جويًا مباشرًا في منطقة تعجّ بالسفارات والمدارس والمقار السكنية، في دولة تُعد حليفًا رئيسيًا لواشنطن و أحد أعمدة الأمن الأمريكي في الشرق الأوسط.

ad

الرسالة واضحة للجميع إذن ؟ لا أحد فوق الاستهداف… لا دولة، ولا سيادة، ولا شراكة.

الإدارة الأمريكية،راوغت بقيادة دونالد ترامب بسلسلة من التصريحات المتضاربة حول علمها المسبق بالعملية. لكن سواء علمت وباركت، أو علمت وسكتت، أو علمت متأخرة، أو لم تعلم حتى ،فالحصيلة واحدة: الغطاء الأمريكي أُزيل، وثقة الخليج تآكلت.والمليارات صرفت. وتصريحات السفارة الأمريكية في الدوحة لم تتجاوز عبارات الحذر للمواطنين الأمريكيين، بينما جاء تعليق البيت الأبيض متخبطًا بين “الأسف على المكان” و”تفهم هدف القضاء على الإرهاب”.

وأظن أن الرسالة العكسية التي تلقّتها العواصم الخليجية، أمنكم ليس أولوية، وسيادتكم لا تُساوي موقفًا واضحًا من واشنطن.و السؤال الذي يطرح نفسه بشدة لماذا قطر؟ ولماذا الآن؟ و لماذا نُفذت الضربة في قطر وليس في تركيا؟ مثلا أو إيران؟؟ رغم ان قيادات حماس الذين استُهدفوا كانوا قد عادوا للتو من إسطنبول، مما يعني أن تل أبيب اختارت المكان بوعي سياسي عميق.

الاختيار لم يكن اعتباطيًا. فتل أبيب لم تضغط الزناد في إسطنبول، رغم أن القيادات المستهدفة مرّت بها قبل ساعات فقط. تركيا، بكل ما تحمله من تعقيد عسكري وسياسي وأممي، ليست ساحة يُجرَّب فيها الجنون الإسرائيلي .و هناك خطوط حمراء لا تجرؤ حتى تل أبيب على لمسها… وتركيا إحداها. فالرد التركي العسكري المحتمل، وانفجار الداخل التركي في موسم انتخابي شديد الحساسية، إضافة إلى شبكة التوازنات المرهفة داخل حلف الناتو، جعلت الأرض التركية منطقة “مغلقة عملياتيًا” حتى أمام أعنف أجنحة القرار الإسرائيلي.لكن عندما غادرت الأسماء المستهدفة إسطنبول، وتوجّهت إلى الدوحة، تغير كل شيء.

قطر كحال الدول العربية الأخرى المهددة ، في العقل الأمني الاستخبارتي الإسرائيلي ، ليست سوى منطقة رمادية  وسيطة، لا محايدة، ولا مصنّفة “عدوة”  ممكن ان تُصبح هدفًا صادمًا بتكلفة منخفضة. وهو أمر يجب ان ينتبه له كل صناع القرار العرب ، فمن وجهة نظر تل أبيب قطر تُوازن بين أدوار متناقضة، تدير الوساطات، تموّل المساعدات، وتحتضن أطرافًا تُغضب إسرائيل… دون أن تمتلك مظلة ردع حقيقية. ولا حسابات أممية تمنع ضربة جراحية تُنفذ في ساعات.ومجرد استضافة قاعدة أمريكية لا يجعل الدوحة “محصنة”، بل ربما يُغري تل أبيب أكثر، لإثبات أن القرار في المنطقة لم يعد في واشنطن وحدها… بل في تل أبيب أيضًا.

باختصار إسرائيل احتاجت منصة لإرسال الرسالة الأكبر منذ حرب غزة… فاختارت الحلقة الأضعف، وسط صمت الحليف الأقوى.

وهنا نقف مطولا عند تصريح عضو الكنيست بأن العملية “رسالة إلى الشرق الأوسط” ليس زلة لسان، بل عقيدة استراتيجية تُبنى عليها قرارات قادمة. إسرائيل تقول لدول الأقليم ككل من يأوي حماس، أو حتى يتحاور معها، سيكون التالي.

وإذا لم تقم الدول العربية برد فعل سياسي حازم، فإن سابقة الدوحة ستُكرر في أماكن أخرى… وقد لا تكون “وساطة حماس” وحدها هي التهمة بل الحياد، التوازن، وحتى الحوار مع أطراف لا ترضاها تل أبيب، لتصبح مبررًا كافيًا للضرب. انها سياسة العقاب .

والمشهد هنا يفرض تساؤلات وجودية على عواصم الدول العربية ،إذا كانت قطر، الحليف الأهم لواشنطن، تُقصف فوق رؤوس سكانها، بعد سوريا ولبنان وغزة ..فهل ننتظر دور العراق ؟ الرياض؟ أبوظبي؟ الكويت؟وغيرها.هل المظلة الأمريكية تحمينا فعلًا، أم تُستَخدم فقط عندما تتقاطع مصالحنا مع إسرائيل؟ و ما جدوى استضافة القواعد الأمريكية إن لم تمنع اختراق الأجواء؟او الحماية ؟؟

ما حدث في الدوحة يدفع الإقليم  إلى مفترق طرق إما الاستمرار في موقع التبعية والوساطة الخجولة.أو إعادة التموضع الاستراتيجي و تطوير دفاعات جوية مستقلة وهو أمر صعب لوجستيا، البحث عن تحالفات رديفة (أنقرة، بكين،موسكو، طهران؟)، وتثبيت خطوط حمراء لا تتجاوزها تل أبيب.

أمام قطر الآن تحديدًا خيارات صعبة، هل تخرج من وساطة حماس؟ هل تطالب بضمانات أمنية حقيقية؟ أم تذهب أبعد نحو ردع رمزي أو شراكات غير تقليدية؟ أم تدفع ثمن الحماية من جديد؟؟

إحذروا انها  حرب الإرادات تبدأ الآن،الضربة الجوية الإسرائيلية في الدوحة لم تكن ضربة لحماس فقط، بل صفعة لسيادة الخليج والمنطقة، ونسفًا لهيبة القانون الدولي واتفاقياته الموقعة والمصادقة والملزمة ، وإهانة لمفهوم الشراكة الاستراتيجية المزعومة مع أمريكا.

إنها بداية عهد جديد، عهد تُعلن فيه إسرائيل وواشنطن أن أمن المنطقة ليس قرارًا عربيًا بعد اليوم.

والسؤال الآن، هل يستفيق العرب ككل  قبل أن تصل “رسالة أوحانا” إلى العواصم الأخرى؟..لعل وعسى.

كاتبة سياسية من الأردن

نقلا عن رأي اليوم

أربعاء, 10/09/2025 - 11:41