إن “عملية تدمير محققة لا محالة سوف تلحق بعالمنا العربي“.
(إدريس هاني:العرب والغرب، دار الطليعة، بيروت 1998)
العجلة من الشيطان
ومبتدا القضية لبنان، حيث يبدأ التشطيب هذه الأيام تمهيدا لطحن غزة واجتياح لبنان وتنفيذ المخطط التوسعي الذي كشر عن أنيابه بلا مساحيق القوة الناعمة لحلفاء الاحتلال.
لم يجف دم الشهداء بعد، فلم العجلة؟ حتى بمعايير فن التفاوض، تبدو العملية أشبه ما تكون بالتهريج. سحب سلاح المقا..ومة المسمى اللتيا، هو إهانة. وقد قلنا لا ضير في ذلك مادمنا في زمن المهانين، لكن الإهانة حين يتولاها الطابور الخامس، تصبح إهانة في إهانة. وهذا ما ينذر بما لا تحمد عقباه.
حين طالت ألسنة الهزيمة لترسم صورة نمطية لطلائع التحرر عبر سرديات مقصوفة الرقبة، كان الرهان على التضليل واستحمار الشعوب والأمم. لكن الرهان على التاريخ هو شأن الأحرار فقط، لأنه بات حتميا أن التضليل محسوب بمساحات زمنية مهملة في تقدير حساب الانتصارات التاريخية.
إن حركة المقا..ومة موصولة بأسرار القوة الخالدة للشعوب، بالمصداقية التي يؤكدها الكفاح والصمود، بغضب الشعوب الصامت منها أو الساطع عند الاقتضاء. لقد فشلت كل مستويات القوة خشنها وناعمها، وتحطمت كل أساليب وفنون السيطرة الامبريالية، ولعل أكبر دليل على ذلك هو اللجوء الجنوني للقوة المفرطة واعتماد الإبادة أسلوبا في الحرب.
الحرب النفسية التي يخوضها الاحتلال وخدمه، لن تثني الأحرار عن مواصلة الكفاح. فالاحتلال ليس له أفق تاريخي حتى يتحدث عن أنه يؤدي مهمة تاريخية، وحدها المقا..ومة تنهض بمهمة تاريخية يعزز مشروعيتها إرادة الشعوب الحرة، ومنطق التاريخ والجغرافيا، ونداء الضمير الإنساني. إن الإبادة هي أكبر دليل على أن الاحتلال يسابق التاريخ خوفا من أن يغلق الباب في وجهه. إنه يستعجل حلولا غير منطقية ويتحدث لغة الآن، لأنه لا يتحمل الانتظار. فالنزوح من الأراضي المحتلة على قدم وساق، والعجز في الموازنة والاحباط في صفوف الجيش جاوز المدى، وسمعة الاحتلال باتت في الحضيض في أعين شعوب الغرب نفسه وعبئا ثقيلا على حلفائه الاستراتيجيين، وبلغة الكاطيغورياس:
لا خوف على بلد مصمم على المقا..ومة حتى آخر رمق.
مصير المنطقة والوعي المقلوب
لقد طال الحديث حول حصر السلاح، مع أنه حديث بليد مستبلد، لأن السياق خير قرينة على بؤس هذا الخيار، وعلى أن الأمم لا تساوم على مصدر قوتها ولا على شرعية مقاومتها. فالمنطقة غارقة في لعبة الأمم، والحرب هنا في ذروتها لا ترحم، والإبادة والحصار والتجويع هو لغة الاحتلال. ثمة إذن يقين لدى قادة مبادرة حصر السلاح بأن المقاو..مة تماهت مع سلاحها حتى بات سلاحها ذاتيا لها لا ينفك عنها إلا في الخيال. ولكنهم يذهبون إلى استنزاف المقا..ومة وإشغالها باللتيا والتي. لقد تعرض الجنوب للاحتلال قبل أن يحمل أهالي المنطقة بواريدهم. كانوا مسالمين مستقرين حتى داهمهم الاحتلال. فتحميل مسؤولية الاحتلال لسلاح المقا..ومة، إفك سياسي.
اليوم يبدو لبنان بين فكي “النتن” و”الزولاني”، وكلاهما واجهة للإمبريالية. وهم يدركون أن إكمال المخطط لن يتم إن بقيت المقا..ومة تحتفظ بسلاحها. وربما نتحدث اليوم عن مفارقة يضعها التاريخ في رف المفارقات الكبرى: نزع سلاح أمة في حالة مقاومة. المفارقة الأعظم هي حينما يكون المتحمس لتحقيق هذه الأمنية الإمبريالية هم شركاء الوطن أنفسهم.
لا يقل شر حكومة الايغور بالشام عن خطر الاحتلال بالجنوب. فضلا عن انهما يجتمعان على مخطط ابتلاع لبنان، هذا بوعد تلمودي وذاك بثأر إيغوري وإيعاز امبريالي، والنتيجة هي بلوغ مصب واحد في النهاية.
كذلك، لم يعد من المجدي تذكير بهاليل الثورجية بجريمة الانخراط في مؤامرة إسقاط سوريا وتسليمها للقاعدة، لأن مآلات الأمور هي اليوم واضحة بحيث لا تخفى إلا على غبي معاند في غبائه، فلقد انتهت الثورجية بمعانقة الاحتلال بعد أن تحالفت مع الإمبريالية تحت شعارات كذوبة. هذه مفارقة أخرى سيحتفظ بها التاريخ في رف القذارة الثورجية والخيانة الوطنية، التي هدمت قلعة صمود ثم هربت إلى الأمام في تجاهل ما يجري اليوم من تقسيم للمنطقة.
وكما قلنا، فإن انقلاب الصورة يتبعه صبيب من التبريرات. لا يمكن أن يجتمع الفعل التحرري مع الحقد والغباء. فغياب الاستقامة المبدئية مسؤول عن كل هذه المهازل. فلا زال الاحتلال ومن خلفه الإمبريالية يستقويان على المنطقة بغباء وأحقاد شركاء الأمة والوطن.
الحقيقة تظهر في سوريا، ولكن!
سيشهد المستقبل عددا من الأعمال تكشف عن حقيقة ما جرى بسوريا، عن حقيقة التآمر الامبريالي على سوريا، طبيعة التحالفات المشبوهة بين الإمبريالية والانتهازية. كل هذا لم ندركه مسبقا فحسب، بل أخبرنا عنه قبل الحدث أيضا ، أي أن الإمبريالية لا يهمها أن تظهر الحقيقة بعد أن تكون قد حسمت الأمر، وهو ما أسميته يومها بالزمن المجدي والموضوعي للمعلومة. فالحديث عن الأحداث بعد وقوعها هو ضرب من التاريخ الحكائي للتسلية. هذا ما سيظهر مع الصحفي والباحث الأمريكي وليام فان فاغنين في عمله المهم: (فوضى خلاقة)، يتناول بالتحليل والتوثيق فصول المؤامرة على سوريا. وهو على أهميته، ليس بدعا فيما كتب حول هذه القضية الشائكة. نعم، ربما هو مهم في البيئة التي كتب فيها، لكن ماذا بعد فوات الأوان؟
المشكلة هي أن العرب لا يقرؤون، بل مشكلتهم عدم التركيز والاستهانة بما يكشف عنه السياق التداولي للأحداث. لن يكون هناك أي جديد بالنسبة لمن أدركوا اللعبة في مستهلها، ربما هذا مفيد للأجيال اللاحقة. كتبنا عام 2016 (ربيع الممانعة) يتناول الوضع السوري من 2011 حتى 2014، وفي عام (2017) كتبنا:(بؤس الربيع العربي)، كانت المعركة في ذروتها، وفيهما كشفنا عن ظاهر اللعبة وباطنها. واليوم لسنا في حاجة إلى كتاب يفتح سيرة مؤامرة جرت وقائعها يوما في سوريا، بل نحن في حاجة إلى موسوعة لرصد كل أشكال القذارة السياسية لما بعد السقوط الذي استهل له الطابور الخامس فرحا، قبل أن يظهروا وجههم الثلاثي الأبعاد: انبطاح أمام قرارات الامبريالية، إرهاب ضد الشعب، تنمر ضد حركات التحرر في المنطقة.
من جهة أخرى تسعى التيارات الظلامية التي أسندت المؤامرة ومنحتها شهادة زور من كيس الشعارات المزيفة، ما مكن للإرهاب وزياده صلابة في أن يفتك بالشعب السوري باسم الدفاع عن الشعب السوري، في أسوأ مغالطة مسرحية شهدها هذا العصر. أجل، هناك من تلك التيارات من يسعى اليوم للهروب إلى الأمام بعد أن ظهر المسروق وانكشف السارق. هنا يكون للتأريخ والوثيقة أهمية قصوى، في تقويض لعبة الظلامية الشاطحة سياسيا.
ليس هناك أي حيثية لتبرير انخراط هذا الرهط في التآمر على سوريا، ولا ينفع أي موقف ترقيعي بعد كل ما حصل. فلقد اتضحت الصورة، فالعهد الجديد في الشام الجريحة قبل حتى أن يكون له الأمر، هرول إلى مداهنة الاحتلال وعقد صفقات معه. لقد كان المطلوب تهريب سوريا وتفكيكها وقطع دابر فكرة الصمود، وهذا ما بتنا نراه رأي العين.
كاتب مغربي
نقلا عن رأي اليوم