العالم الغربي اليوم يعيش حالة غير عادية، أو هي حالة الحرج والتناقض، أو هي حالة الانكشاف الفاضح. فهو لا يكف من جهة عن الحديث عن مبادئ العالم الحر، وعن تمثيل القيم الإنسانية، والادعاء أنه غادر ماضيه الاستعماري وقطع معه، لكنه في الجهة المقابلة، يجد نفسه عاريا من كل المبادئ والقيم، مدافعا عن سياسة التوسع والاستعمار منتجا للقيم والمبادئ المتناقضة.
بالأمس القريب لم يغب التناقض عن سلوك هذا العالم الغربي، لكن تناقضات الوضع الدولي لم تكن تسمح بمساحة أكبر لانكشاف هذا التناقض وتمدده، فكان يظهر حينا في صورة فيتو تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية أو بعض الدول الأعضاء في مجلس الأمن، فيثار النقاش حول القضية حينا من الدهر ثم تعود المياه لمجاريها. وفي اللحظة التي يضطر الغرب للانفضاح يتم فبركة ذريعة يتم بها تبرير السياسة المناوئة لكل المبادئ والقيم والشرعية الدولية.
الذرائع التي فبركت كثيرة، منها أسلحة الدمار الشامل لاستباحة أرض العراق وتدمير قدراته، ومنها الإرهاب ومواجهة تنظيم الدولة لتقسيم سوريا، ومنها ذريعة تدمير البرنامج النووي لشرعنة الحرب ضد إيران، والآن يتم تحريك ذريعة حصرية السلاح بيد الدولة لاستباحة أرض لبنان.
في الحرب على غزة، لم يعد الأمر مقتصرا على قضية واحدة يمكن اختلاق ذريعة بشأنها لتبرير السلوك المناقض للمبادئ والقيم الإنسانية الدولية، بل تناسلت كل القضايا ووقع العالم الغربي الحر أمام حرج تفخيخ كل المنظومة القيمية الإنسانية.
بدأ الأمر باستهداف المدنيين الفلسطينيين في غزة، وحاولت دولة الاحتلال فبركة ذريعة أنهم مقاتلون أو أن مقاتلي الفصائل الفلسطينية المسلحة يتمترسون بهم، لكن تعدي الشهداء من المدنيين عتبة المائة ألف، وطريقة القتل الهمجي الموثقة وضعت العالم الغربي أمام حرج الدفاع عن قوانين الحرب، وجريمة استهداف المدنيين، ولم يستطع أحد اليوم أن يوقف هذه الجرائم أو يمر خطوة إلى الأمام فوق الإدانة الناعمة، فيقرر فرض العقوبات الاقتصادية على دولة الاحتلال احتراما للقيم والمبادئ الإنسانية وإجبارا لها على وقف الحرب.
وتوالت الجرائم، فمست البنيات الاستشفائية والخدمية والتعبدية واستهدفت الحاجيات الأساسية للعيش الفلسطيني، ثم تحول الأمر إلى سياسة تجويع ممنهج أظهرت كل الأرقام تفشيها، ومع ذلك لا تزال المنظمات الدولية تشترط مواصفات شكلية لا يمكن تحصليها بدون زيارة موظفين أمميين للمنطقة، وهو ما لا تقلبه دولة الاحتلال، ليبقى التلكؤ سيد الميدان، ويأتي بعدها مبعوث الرئيس الأمريكي ستيف ويتكوف ليقدم الغطاء لدولة الاحتلال ويزعم بأنه لم ير مؤشرات على وجود حالة مجاعة وأن المساعدات تصل بسلاسة إلى الفلسطينيين في القطاع.
لا نريد أن نرفع السقف قليلا، ونجادل مع أطروحة هذا العالم الغربي بخصوص الحق في المقاومة، وبأي تكييف قانوني دولي يتم تصنيف حركاتها في فلسطين ضمن المنظمات الإرهابية أو اللوائح السواء حسب تصريح الأمين العام للأمم المتحدة، مع أن هذا الحق مكفول بالمواثيق الدولية، كما أن «الاحتلال» هو التكييف القانوني الدولي لعدوان دولة الاحتلال على غزة، إنما نطرح قضايا أخرى ليس فيها ذرة خلاف بين أصحاب الضمائر الحرة.
العالم يسير في اتجاه حاسم إلى زعزعة الاستقرار، وإشعال حروب كبرى في المنطقة
وإذا كانت غزة اليوم تمثل الحجر الذي تكسرت عليه كل مبادئ حقوق الإنسان الدولية لأنها أضحت ساحة لكل الجرائم القذرة لتهجير شعب بطريقة قسرية عن أرضه، فإن في الجوار الإقليمي ثلاثة نماذج صارخة تفجر التناقض الغربي، وكيف يتم اللعب بالمبادئ الإنسانية والقانونية لخلق الخرائط الجديدة.
النموذج الأول، وهو حصرية السلاح بيد الدولة، وهي مقولة صحيحة لا غبار عليها، لأنها من جهة ترمز لوحدة الدولة وسيادتها على كل أراضيها، وترمز من الجهة المقابلة إلى علوية الدولة على أي طائفة أو مكون يريد أن يستقوي بقوته على بقية المكونات الأخرى.
في المثال اللبناني، تتدخل واشنطن من خلال المبعوث الأمريكي توم باراك بورقة من عشرين مبدأ، تنطلق من مقولة حصر السلاح بيد الدولة، لتجرد حزب الله من سلاحه، وهو يدرك أن الاتفاق اللبناني الإسرائيلي الذي تم بوساطة أمريكية يشترط ابتداء انسحاب دولة الاحتلال من جنوب لبنان، وأن تنفيذ حصر السلاح يأتي في خطوة لاحقة، لكن المبعوث الأمريكي، لا يمارس أي ضغوط على الحليفة إسرائيل، وإنما يستثمر الفرصة «التاريخية» لممارسة الضغط على الدولة اللبنانية، من أجل «نزع سلاح حزب الله» بلا ضمانة بانسحاب دولة الاحتلال من جنوب لبنان.
يظهر التناقض في حالة الدولة السورية التي تريد توحيد أراضيها وبسط الأمن في كل مناطقها، لكنها تواجه إسرائيليا بهجوم عسكري، يمنعها من التقدم لجهة الجنوب السوري، بحجة أن دخول قوات الجيش أو قوات الأمن السورية إلى منطقة السويداء هو خط أحمر يمس بالأمن القومي الإسرائيلي، وتجد في نهاية المطاف دعما أمريكا يقدم اقتراحا فيه كثير من الخبث، يطلب من الدولة السورية فتح ممر إنساني على هذه المنطقة، والجميع يعلم أنه ممر لتهريب الأسلحة إلى بعض الفصائل الدرزية المتمردة على سلطة الدولة والحليفة لدولة الاحتلال، بل إن الأمر لا يقتصر على الحالة الدرزية، بل حتى على قوات سوريا الديمقراطية التي تشجعها واشنطن ودولة الاحتلال على خرق الاتفاق المبرم بينها وبين الدولة السورية وذلك حتى يصير هدف حصر السلاح بيد الدولة هدفا مستحيلا.
النموذج الثاني، يتعلق بالجانب الإنساني، فالولايات المتحدة الأمريكية لحد الآن ترفض إنشاء ممر إنساني في غزة، من خلال فتح المعابر لمرور الشاحنات بإشراف الأمم المتحدة والمؤسسات الإغاثية الدولية، وتفضل أن تحتكر هذا الورش من خلال مؤسسة غزة الإنسانية المتورطة في مصايد الموت، لكنها في الحالة الدرزية، التي لم تظهر فيها أي ملامح ولو للمراتب الأولى للمجاعة، تدعو لفتح ممر إنساني إغاثي، وتمارس ضغوطا رهيبة على الدولة السورية من أجل التمكين له، وهي تدرك أن قصده خلق بؤرة مسلحة متمردة ضد الدولة تخدم الأهداف التوسعية إسرائيل.
النموذج الثالث، كشفه رئيس الوزراء الإسرائيلي، حين أعرب بكل فخر عن تعلقه بالحلم التاريخي والروحي بدولة «إسرائيل الكبرى»، بما يعنيه ذلك من شرعنة التوسع الاستعماري في الجوار الإقليمي الذي يربط بعضه بتل أبيب اتفاقيات سلام مثل مصر والأردن، وهو الأمر الذي لم يجد من العالم الغربي الحر أية مساءلة قانونية أو سياسية، فقد قدمت واشنطن دعما كبيرا لدولة الاحتلال لتنفيذ جزء كبير من هذا الحلم من خلال توجيه ضربات إلى البرنامج النووي الإيراني، وهي تسعى إلى خلق تسويات مع روسيا بقصد تحييد دورها في الشرق الأوسط، وتمكين دولة الاحتلال من تحقيق أهدافها التوسعية بشكل متدرج بدءا من لبنان وسوريا، ثم بعدها الأردن ومصر، إذ لن تعدم الذريعة المناسبة لكل دور على حدة.
نقلا عن القدس العربي