في بدايات حرب الإبادة على غزة، كانت تصريحات الدبلوماسية الأردنية إيجابية ومختلفة عن مثيلاتها العربية. واعتقدنا خطأ أن النهج السياسي الأردني قد استثنى كارثة غزة من لزومياته. لكن الأمر لم يكن كذلك فما زال لا يُحرم ولا يحلل ولا يستثني، ويفرض مصالح العدو على حساب المصالح الوطنية والقومية وعدالة القضية الفلسطينية. وقد تكبدت رئاسة الدبلوماسية الأردنية في إطار هذا النهج وزر اللامنطق في الدفاع عن سياسة إغاثية جوية من صنع اسرائيل اتبعها الأردن، حتى جاء خطابها وتبريرها لهذه الطريقة وكأنها تخاطب أطفالاً متجاهلة بأن هذا الأسلوب من الإغاثة يضفي الشرعية على الحصار وعلى إغلاق المعابر ولا ينقذ حياة طفل واحد.
وككاتب أردني، فإني معني بإبداء الرأي بموضوعية، والحقيقة للناس بهذه المسألة كما أراها ويدركها العاقلون، وبمسألة أخرى تتعلق بعمق الخطأ وفداحة الخطر بحذو الأردن حذو الأخرين بسياسته إزاء القضية الفلسطينية.
— إن إنزال وجبة طعام أو مليون وجبة بهذه الطريقة لا تنقذ حياة طفل واحد. الطعام للطفل أو للإنسان ليبقى حياً ليس لعبة يلعب بها وينساها، فالحياة لا تمضي بمجرد تأمين وجبة أو اثنتين أو أكثر، ورمي الطعام من طائرة أو مئات الطائرات في هذا المكان أو ذاك لا يؤمن شروط البقاء للإنسان حتى لو افترضنا بأنه يبقى على قيد الحياة بالخبز وحده. بل هي سيرورة بشرية مُستدامة من تأمين الطعام وغيره من حاجات الإنسان كشرط ً للبقاء. فإنقاذ حياة طفل واحد أو كل أدميي غزة لا يمكن تحققه إلا برفع الحصار الظالم والمجرم واللّا قانوني عنهم.
–فأنتم بأسلوب الإغاثة بالرمي بالطائرات الذي نصحتكم به أو سمحت لكم به “إسرائيل” تنقذون وفقط حصار الكيان لغزة وتشرعونه وتكرسون إغلاق المعابر وسياسة القتل بالتجويع. وما أجزم به أن قراراتكم يدرسها غيركم وينفذها أنتم ولا مراجعة لها حتى فيما بعد
— ولو كانت “إسرائيل” تريد لكم أن تنقذوا حياة طفل أو كانت تسمح بهذا لرشّدت جريمة حصارها ووفرت للأطفال والرضع حاجاتهم للبقاء، والطرق كثيرة، وبيدها، ولما قتلت ميدانيا الأطفال أو أمهاتهم الحاملات مواعين لوضع شيء من الطعام فيها. بل لو لم يكن هذا النوع من الإغاثة يخدم أغراضها المشار إليها لما سمحت به لكم ولا طرتم فوق غزة. ومن هنا عليكم إدراك أن إسرائيل تريد منكم استخدام هذا الأسلوب لأهدافها ولا تريد أن يصل شيئا مما ترمون لأيدي الطفل الغزي ولو كان نصف رغيف من الخبز.
–أدعوكم أن تستعرضوا كل تصريحاتكم الرسمية، فهي لم تطالب ولو مرة واحدة برفع الحصار عن غزة أو كسره، وتستخدمون فيها مصطلحات فضفاضة مثل “رفع المعاناة عن غزة”، وإني إذ أدعو كل المستخدمين لهذه الاستعراضات الغوثية للتبصر بأهداف “الإسرائيلي” الخزري الذي لا يمت لبني اسرائيل ولا للمنطقة بصلة، من السماح لكم بهذا الأسلوب، لأرجو لفت النظر لمهانته لكم ولتراكض الأطفال حول هذه المعونات الساقطات في مشهد مهين يُعتدى فيه على طفولتهم.
— لا أدخل في النوايا ولكن بالأفعال ومضمونها وما تؤدي إليه. لأقول بلسان كل ضمير حي، لا للتغطية على حصار مجرم ولا لتكريسه بأي طريقة، ونعم لإنهاء هذا الحصار بالضغوطات السياسية والدبلوماسية على الكيان مباشرة والتي لا الأردن ولا غيره من أصدقاء الكيان والمطبعين مارسوا ذرة منها عملياً، رغم توفر الوسائل لديهم.
أما المسألة الثانية فتخص التزام الأردن بالنهج السياسي المسؤول عن مصائب الأردن في سياستيه الخارجية والداخلية. فلديه سببين يخصانه من دون الدول العربية وغير العربية يفرضان عليه ويبرران له أمام أمريكا والعالم أن لا يحذو حذو الدول العربية في سياسته إزاء القضية الفلسطينية والكيان. ففي هذا وبالإلتزام بثوابت الشعب الأردني من القضية الفلسطينية يحافظ على الأردن الدولة والوطن والجبهة الداخلية السليمة ومن الأخطار الخارجية والداخلية. ومن الجريمة بمكان أن تكون سياسة السعودية وقطر إزاء القضية أكثر حكمة من سياسة الأردن:
ـ السبب الأول: التناقض أساسي بين وجود الأردن واسرائيل على الخريطة في آن واحد. إن سعي إسرائيل لفرض مصالحها ونفوذها وإرادتها على الأردن يتجاوز أطماعها التوراتية إلى قضية وجود أو لا وجود لها. وطالما تكلم مفكرو وسياسيو “إسرائيل” بهذا الأمر. فالأردن يُعرِّفونه بأنه عمق إسرائيل الجغرافي ومقتلها عسكرياً وأمنياً. وبهذا، فقد تنامي الوعي السياسي على الساحة الأردنية وتنامت وحدة الحالة الشعبية اجتماعيا واقتصاديا ومفاهيمياً بين الشرق والغرب أردنيين وثنائية (فلسطيني أردني) دُفنت. والأردنيون أصحاب الأرض التاريخيين باتوا يدركون أن القضية الفلسطينية هي في نشأتها وسيرورتها وخاتمتها قضية شرق أردنية ووطنية بامتياز. وإن إسرائيل تنظر اليهم كنظرتها للفلسطينيين بأنهم عرب وليس أردنيين، ولا لدولة أردنية أو فلسطينية، بل “إسرائيل”، فالشعب واحد والهم والمصير واحد، ولا بقاء لقيادة علاقتها مع شعبها قائمة على القمع واللّا مواطنة.
ـ الثاني: القاصي والداني يعرف التركيبة السكانية في الأردن وطبيعة ارتباطها الوثيق والعضوي بفلسطين والفلسطينيين والقضية الفلسطينية، وهي التركيبة غير الموجودة في أي بلد عربي ولست بمعرض التفصيل. وأتحدث هنا عن حجم المكون الغرب أردني أو الفلسطيني الجذور، ومعظمه ولد في الأردن، وكلهم مواطنون أردنيون وبناة للدولة، ومن العبث والجنون والإستحالة والخطورة تحييدهم أو القفز عن اهتماماتهم العميقة كمواطنين، فكيف عندما تمس مجريات أو خواتيم القضية الفلسطينية، وفلسطين وديعة وطن لديهم، ومربى أجدادهم وهم ورثة، فلسطين تحفر في عقولهم وعواطفهم وفي كل لحظات حياتهم. وكيف لقيادة أن تتبنى سياسة معادية لشعبها بهذا الحجم.
فلسطين كلها اليوم تحت سيادتهم ولا يُمكن لها أن تقبل بدولة فلسطينية تنهي فيها وجودها ومشروعها وهي الأقوى وأمريكا معها والعرب هم الأضعف والباقي ثغاء ووهم، والمقاومة وحدها الحقيقة. انظروا لرد الغرب على محرقة الغزيين في مسرحية نيويورك وكيف يفترضون الدولة الفلسطينية منة لا حقا، وبشروط تكشف زيفهم وتُفشل مشروعهم، فإسرائيل إن سمحت بدولة فستكون منزوعة السلاح، والسيادة لها على الأرض والجو. وتبقى ملفات القضية عالقة ومشكلة الفلسطينيين والأردن مع “اسرائيل” قائمة.
كاتب عربي اردني
نقلا عن رأي اليوم