عندما تفرغ من قراءة مذكرات السفير الفرنسي السابق، برنار باجولي، «الشمس لم تعد تطلع من الشرق»، وإذا كنت مواطنا عربيا تطاردك لعنات المنطقة التي رأيت فيها النور، يستحيل أن تمنع نفسك من الحزن على حالك.
ترقَّى باجولي في المناصب الدبلوماسية، إلى أن عمل سفيراً، بين 1994 و2013، في كل من الأردن والعراق والبوسنة والجزائر وأفغانستان. قبل ذلك عمل دبلوماسيا في سفارات فرنسا في روما والجزائر ودمشق. في 2013 تولى قيادة المخابرات الخارجية الفرنسية إلى 2017.
عرف الرجل المعرَّب أسرار كل العواصم العربية التي عمل فيها. عرف التركيبة الثقافية والنفسية لكل مجتمع، واطلع على نقاط القوة والضعف حيثما حلَّ. أتقن اللغة العربية بنحوها وقواعدها الصعبة. عرف الحروف الشمسية والحروف القمرية، وتعرف على الفروق بينها. تعلم اللهجات المختلفة وحكم بأن أجملها السورية والمصرية، وبأن العراقية حادَّة. أتقن اللكنات داخل البلد الواحد، وأدرك الفروق فيها بين المناطق السورية بأريحية وثقة تضاهيان معرفة المواطن السوري. ثم توغل في معاني القرآن الكريم ووقف عند عبارات لا تنطبق عليها قواعد النحو مثل «جاءت الرُسُل» بينما المفروض أن تكون، في لغة اليوم، «جاء الرُسُل». وأسهب في فهم التاريخ الإسلامي منذ الخلفاء الراشدين مرورا بالدولة الأموية فالعباسية ومَن قتل مَن وفي أيّ سياق.
«الشمس لم تعد تطلع من الشرق»، علاوة على أنها مذكرات تجمع بين السياسة والدبلوماسية والأمن، تعيدك إلى وقائع ربما تابعتها واستعصى عليك فهمها. كُتبت بالسهل الممتنع لتسلط الضوء ليس فقط عمَّا تروي بل على الراوي أيضا. يُنصح بقراءتها الدبلوماسيون، الناجحون منهم والفاشلون، وكذلك المساكين الذين تحطمت أحلامهم في أن يصبحوا دبلوماسيين على صخرة الفساد السياسي ودسائس تماسيح الإخفاق الإداري في أكثر من بلد عربي.
حالة باجولي ذكّرتني بأن في بلادي يُعيَّن المسؤولون والوزراء الفاشلون داخليا سفراء في الخارج. أذكر حركة شنَّها موظفو وزارة الخارجية الجزائرية سنة 1991 (كان سيد أحمد غزالي وزيراً للخارجية) احتجاجا على تعيين السفراء والدبلوماسيين من خارج الوزارة. لم ترقَ الحركة إلى مستوى إضراب لكنها كانت إنذاراً بوجود احتقان يجب احتواؤه.
في الجزائر، كما في أغلب دول العرب والعالم الثالث، الدبلوماسية نادٍ مغلق تحتكره أعلى جهات الحكم وأقواها نفوذا، مثل قيادة المخابرات ورئاسة الدولة. بها تكافئ وتعاقب. هذا النادي مرادف للثراء والامتيازات المادية الهائلة، كأن المتحكمين فيه لا يدركون أن موقع البلاد دوليا، وأمنها ومصالحها المتنوعة أمور متوقفة على هذه الدبلوماسية.
اشتهر النظام الجزائري باستعماله المناصب الدبلوماسية لمكافأة ومعاقبة رجاله. ولا يزال هذا التقليد راسخا. المحظوظون يكافَأون بالمناصب المجزية
مثلا: إلى اليوم لا يفهم الجزائريون لماذا عُيِّن الجنرال اليمين زروال سفيراً للجزائر في بوخارست، رومانيا، سنة 1990، إثر استقالته من قيادة القوات البرية وبعد سنوات طويلة قضاها قائدا ميدانيا في الصحراء (زروال امتلك شجاعة الاستقالة بسرعة بعد أن وجد نفسه في المنصب الخطأ وأدرك عبثية قرار تعيينه).
وإلى اليوم لا يفهم الجزائريون ما هي المؤهلات والمهارات الدبلوماسية التي جعلت المدير العام السابق للتلفزيون الجزائري، حمراوي حبيب شوقي، يصبح سفيراً في رومانيا (بينما كان منصب مدير التلفزيون أكبر منه بكثير) في 2009. عكس زروال، ظل حمراوي متمسكا بمنصبه ثلاث سنوات.
وقد يحتاج الجزائريون دهراً ليفهموا أسرار تعيين العقيد يزيد زرهوني سفيرا في أمريكا والمكسيك واليابان بعد تنحيته من على رأس جهاز المخابرات في 1982. (ليس غريبا أن صلب العمل الدبلوماسي جوسسة واستخبارات، وأن أغلب الدبلوماسيين عبر العالم على تماس مع استخبارات بلادهم بشكل أو بآخر، لكن ليس إلى درجة تسمح بتعيين زرهوني سفيراً في اليابان وأمريكا!).
وهناك حالات أخرى عديدة. اشتهر النظام الجزائري باستعماله المناصب الدبلوماسية لمكافأة ومعاقبة رجاله. ولا يزال هذا التقليد راسخا. المحظوظون يكافَأون بالمناصب المجزية. والمغضوب عليهم، إذا كانوا من الأقوياء، يُعينون في سفراء وقناصلة لإبعادهم عن المسرح السياسي الداخلي لتقليص نفوذهم وتأثيرهم. وربما تحت هذا التفسير يقع تعيين الجنرال العربي بلخير سفيرا في الرباط بعد أكثر من عقدين قضاهما أمينا عاما للرئاسة ومديرا لمكتب الرئيس (تخللها مرور سريع على رأس وزارة الداخلية).
لسوء حظ الجزائر أن الكثير من هذه التعيينات شملت وزراء ومسؤولين كبارا فشلوا فشلا ذريعا في المسؤوليات التي تقلدوها داخليا. لكن بدلا من مساءلتهم ومعاقبتهم، عُيّنوا سفراء.
لا غرابة في شكوى المواطنين العرب المستمرة من إهمال قنصليات وسفارات بلادهم لهم، وتخليها عنهم حتى في أحلك الظروف. علاوة على غياب رصيد ثقافي وانعدام تجارب الاهتمام بالفرد، هناك إخفاق الدبلوماسيين وتقديمهم خدمة النظام الذي عيّنهم على المواطن في غربته.
في مقابل هذه الصورة القاتمة عندنا، يروي باجولي بالتفاصيل شدة اهتمامه واهتمام حكومته بالفرنسيين في الخارج، إلى درجة أنه مرة اضطر إلى البقاء تسعة أشهر لم يغادر خلالها بغداد لحظة واحدة بسبب فرنسي واحد اختُطفته إحدى الميليشيات. وفي عرف السفراء، هي فترة طويلة جداً.
بمفهوم سكان الدول المحاصَرة بالفشل، تجربة باجولي تختزل نموذج الدبلوماسي الناجح. لكن بمنطق فرنسا والدول التي تشبهها، هو دبلوماسي أدى مهامه كما هي مطلوبة منه، وكفى. لكن أحد مهرِّجي السياسة في الجزائر وصف باجولي بـ«الباربوز» (المخبر الفالت) لأنه تحدث عن تدهور صحة الرئيس بوتفليقة. لو كان لدى الجزائر ولو حفنة دبلوماسيين من أمثال باجولي في الاجتهاد والعناد، كانت أحوالها حتما ستكون أفضل مما هي اليوم.
القدس العربي