بؤرة الضوء

خالد الفاظل

في الأفلام السينمائية ينتصر البطل دائما. مع أنه أثناء ركضه، غالبا ما يتسبب في قطع أرزاق باعة الشوارع المساكين عندما يصطدم بهم، وأحيانا ينتزع سيارة من مواطن عادي دون أن يقدم له اعتذارا. لأن نجاة البطل أهم بكثير من حياة مئات الناس في خلفية الفلم. نفس الشيء مع ألعاب الفيديو، حتى ولو كانت المدن افتراضية، فإنها تزرع في وعينا أن حياة البشر لا أهمية لها ونحن في طريقنا إلى الانتصار...

 

في عصرنا اليوم ومع تغول وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت بؤرة الضوء المتحركة هي أهم بقعة في المشهد. السعادة والنجاح والجمال والحقيقة لا وجود لهما خارج بؤرة التأثير، وما حولها من مشاهد مزدحمة بأمجاد الناس ومظالمهم لا أهمية لها. أذكر عندما غادرت التعليم سنة 2019 علمت من مصادر أن الوزارة كانت تنوي تكريمي في نوفمبر! مع أنه لا علم لي بخلفية التكريم وهل المصادر كانت دقيقة. إلا أن الخبر أضحكني نوعا ما، أضحكني لأن آخر سنتين لي في التعليم لم يزرنا أي مفتش، نظرا لعملي في مناطقة نائية والمفتشون لا يطيقون مشقة الأسفار والوزارة لا تعطيهم ما يكفي من الصرامة والوقود. فكيف يتم التكريم من دون تقويم ميداني؟ لكن وجودي حينها في بؤرة الضوء ودردشتي مع الوزير جعل مني مرئيا، حتى ولو كانت أمجادي التربوية متواضعة. مع أن الأبطال الحقيقيين كثر، ويعملون في صمت منذ عقود رغم المظالم العميقة في الترقيات والتحويلات، لكن وجودهم خارج بقعة الضوء جعل من معاناتهم بعيدة، فلا ترى ولا تسمع..

 

أمام التدفق الكثيف والسريع للمعلومات، لم تعد عقولنا تجد متسعا من الموضوعية للبحث وتمييز الحقيقي من المزيف. والنقاش الذي تُوهمنا وسائل التواصل الاجتماعي أنها خلقته، ليس نقاشا من أجل الحقيقة، بل نقاش من أجل عدم سماع حقيقة أخرى لا تعجبنا. وأمام استبداد بؤرة الضوء، لم تعد المشاهد الجانبية والصغيرة في حياتنا مهمة. وأصبحت الحكومات والجماهير تكتفي بمراقبة بؤرة الضوء وحسب، وما يحدث خارجها ليس مهما، مثل سقوط طاولة بائع فواكه مسكين صدمه بطل فلم تتعقبه الكاميرا وعيون المشاهدين...

 

ليس غريبا في عصر الأضواء الرقمية، إذا ما قام الناس اليوم بأشياء جنونية في مواقع التواصل الاجتماعي للفت الانتباه، فهذه هي لغة العصر. فأصبح المثقف المسكين عندما يفشل في دخول الترند يكتفي بالحديث عن نظام التفاهة، مع أنه يكون سعيدا عندما يمدحه أحد " التافهين ". على كل حال، إنه عصر معقد ومكتظ بالأشياء المزيفة، ولن تتكشف أمراضه النفسية بوضوح إلا بعد اكتمال نضج أول جيل فتح عينيه على شاشات مضيئة مزدحمة بالتطبيقات..

 

الساعة منتصف الليل و 52 دقيقة وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

اثنين, 31/10/2022 - 00:49