سحر العمل!

خالد الفاظل

صباحات دكار تبدأ قبل أوانها، فقبل أن تشرق الشمس وتزقزق الطيور تتدفق الخطوات في الشوارع. هذا شاب يدفع أحلامه صاحياً، وهذا يسكب القهوة ساخنة لينعش بها العابرين، وذلك بائع متجول يحمل بضاعته على منكبه، وهذا ناقل يدفع عربته ثنائية العجلات نحو الغروب، وذلك إسكافي يطقطق معداته منبهاً، وهذا بائع يوضب رفوف محله، وتلك سيدة تكنس أمام طاولة وجباتها السريعة. ذلك شيخ وقور يدور حبات مسبحته ببطء ويقلم أرصفة الشوارع يريد أن يخبر الحياة بأنه ما زال مستمرا في الحركة وعليها أن تُبعد الأمراض عن جسمه. هؤلاء فتية يمارسون الحركات الرياضية عند الشواطئ، وآخرين مع أكباشهم المدللة يمارسون رياضة الصباح. عابرون كأنهم هبطوا بالمظلات من ثلث الليل الأخير على أرصفة الصباح. بالمسجد المجاور؛ عدد صفوف المصلين في صلاة الصبح ينقص قليلا عن تعدادها في صلاة المغرب. إنهم قوم يبدأون حياتهم مبكرا ولا يحبون الخمول والصمت والأطعمة الباردة وتجنب إفشاء السلام عند الاحتكاك..
أكاد أجزم بأنه لا أحد في دكار؛ يبقى نائما على سرير الاتكالية ينتظر  السماء تمطرُ ذهباً، حتى طلاب الجامعة تجدهم يعملون في المنازل لتأمين مصروفهم. ومن لا يقوى بدنيا وذهنيا على أداء العمل يبذل جهدا مضاعفا في طلب الصدقة. طالب صدقة قص علي حكاية طويلة من الولفية. فقلت له بالفرنسية أنا لم أفهم لأنني لا أعرف ترجمة "حاظر الخير"، فقام بترجمة حديثه فورا إلى الفرنسية..
عبد الرحمن ماسح أحذية يافع جاءني في ساحة "الاستقلال" يعرض خدماته، فقلت له أن أحذيتي نظيفة ورياضية وليست بحاجة إلى التلميع. لكنه ظل يبتسم متوددا ويترجَّى، ويذهب ببطء ثم يعود أكثر اشتياقا كأنه حمامة تطير نحو عش يأوي بيضها. مددت له أحذيتي ففتح حقيبته متحمسا وأخذ يصقلها بجدية ولطف مقابل 50 فرنك. علمني عبد الرحمن أن الإلحاح هو سر الوصول للغايات، وبأن العمل هو أفضل ترياق للاكتئاب والملل والأوهام..
أعتذر مسبقا إن كان تفاعلي مع الأحداث الوطنية حاليا يتسم بشيء من البرود وتباعد الجرعات، وليس الأمر عائدا إلى عدم وجود حليب "الوطنية" هنا في دكار، بل لأنني لا أجيد التفاعل عن بعد. فأهم الحواس الخمس التي استخدمها أثناء ممارسة الكتابة حاستي الشم والتذوق. فمن أجل الغوص عميقا داخل أحداث بعينها، أحتاج أن أشمها وأتذوقها. وكل ما يمكنني أن أقوله؛ أن أكثر موضوع يمكنني أن أكتب عنه الآن وبعمق؛ هو الأرز والسمك أو ما يعرف هنا "بتيبو جَنْ".
مدينة دكار تعلمك المشي والحركة والتصالح مع الحياة وطعم التوابل. كتبت هذا المنشور صباحا؛ لكنني أخرته حتى يحظى بتفاعل أكبر من سكان نواكشوط...

ثلاثاء, 08/06/2021 - 15:08