الصيد التقليدي وما لم تطلع عليه اللجنة البرلمانية التي زارت انواذيبو مؤخرا

د.سيدي المختار الطالب هامه

لاحظت بمناسبات عدة جهل الكثير من الموريتانيين حقيقة ما يجري في قطاع الصيد عموما وفي شبه قطاع الصيد التقليدي خاصة؛ واليوم وبعد ما وصلني من الأخبار حول الزيارة التي قام بها مؤخرا فريق برلماني من جمعيتنا الموقرة لمدينة انواذيبو قررت أن أطلع العامة من المواطنين وباللغة العربية على بعض المعلومات مما لم يعلمه الموريتانيون في السابق وغيب قريبا عن الفريق البرلماني على الرغم من زيارته لأهم مصادر المعلومات الخاصة بقطاع الصيد البحري.

 

أما الهدف الكامن وراء هذا العمل فهو جر أصحاب القرار في الدولة إلى الوقوف على حقيقة الأمور داخل قطاع اقتصادي هام، من جهة وإلى خلق الوعي الضروري لدى الإعلام والمجتمع المدني والطبقة المثقفة حول الموضوع حتى يساهموا جميعا في إنارة الرأي العام، وذلك من جهة أخرى. 

 

في هذا المقال أبدأ بالصيد التقليدي محاولا إلقاء الضوء على جوانب من إخفاقات سياساته وهو القطاع الذي لا جدال حول الدور الذي يمكنه لعبه في خلق الثروة وتوفير فرص العمل وفي دعم السياسة الوطنية الرامية إلى تأمين الغذاء للسكان. 

 

وقبل الدخول في التفاصيل أذكر بداية بكليات قد تكون أساسية بالنسبة للقراء وللمهتمين بقطاع الصيد وما يجري فيه على السواء.

 

الكلية الأولى تتعلق بمفهوم الثروة التي هي رأس مال طبيعي وطني مشترك بمعني أن الثروة البحرية ملك لجميع المواطنين من الأجيال الحالية واللاحقة وأن على الدولة المحافظة عليها وضمان استدامتها  كما أن عليها كذلك تسييرها بإنصاف وبحيث  يستفيد من استغلالها كل المواطنين. وهذا معناه العدالة في الولوج إليها من طرف  كل موريتاني لديه إمكانات في ممارسة أحد أنشطة الصيد المختلفة أو إلى الخدمات العامة التي تقدمها الوزارة أو تمولها الدولة من عائدات الصيد: التعليم والصحة والماء والكهرباء إلى غير ذلك من الخدمات التي تقدمها الدولة لصالح مواطنيها وتمولها من عائدات مختلف القطاعات الاقتصادية والخدمية. 

 

والكلية الثانية يشكلها الخيار الذي يجب أن ترجحه كل دولة حباها الله بثروة بحرية بكميات كبيرة مثل بلادنا؛ وهو إما أن تعطي الأولية لأمن غذاء السكان وبالتالي توجه غالبية الإنتاج للسوق المحلي وإما أن يتم اعكس ذلك الخيار ويكون التصدير إلى الخارج هو التوجه العام للصيادين ورجال أعمال القطاع؛ وهذا الخيار الثاني لا يعني بحال من الأحوال حرمان السكان من فوائد سمكهم الغذائية والصحية ولا عدم تدخل الدولة لضمان تموين السوق الوطنية بالسمك. 

 

ومهما كان الخيار فمن المستحب أن تحتفظ الدولة لنفسها بكمية معينة حسب حجم الكميات المسموح باستخراجها سنويا دون إلحاق الضرر بتجدد الثروة، والغرض من تلك الكمية استخدامها في العلاقات مع الدول الأجنبية وفي المجالات السياسية المحضة.

 

وهناك أيضا حقيقة أخيرة تجب معرفتها وهي أن مشكل الصيد ليس  نقصا لا في التخطيط والسياسات والإستراتيجيات ولا في النصوص القانونية ولا في الكفاءات  وإنما في سوء الحكامة كما في باقي القطاعات.

 

وفيما يتعلق بشبه قطاع الصيد التقليدي الذي هو موضوع هذا المقال فلا حاجة في تكرار ما تسمعون وتقرأون وتشاهدون في الأعلام الرسمي وغير الرسمي عن أهميته كنشاط لا تتطلب مزاولته رأس مال كبير ولا يحتاج تشغيل سفنه خبرة كبيرة إذ لا  تستخدم وسائل إنتاجه عادة أنواعا معقدة من التكنولوجيا.

 

نعم إن المهم هنا هو إطلاع السياسيين والمنتخبين وعامة المواطنين على ما هو الصيد التقليدي من الناحية القانونية وما هو الصيد التقليدي في الواقع المعاش بعد ما يقارب أربعين سنة من إعطاء الأولوية لتنميته في جميع السياسات التي انتهجتها موريتانيا حتى اليوم.

 

بالنسبة للقانون يقول المرسوم رقم 159 ـ 2015 المطبق للقانون 017 ـ 2015 بتاريخ 29 يوليو 2016 المتضمن مدونة الصيد البحري: "يعتبر صيدا تقليديا كل نشاط صيد يمارس على الأقدام أو بواسطة سفن مسطحة أو غير مسطحة بطول إجمالي يقل أو يساوي 14 مترا بدون محركات أو بمحركات ذات قوة أقل أو تساوي 150 حصانا، وتستخدم فيه آليات صيد يدوية باستثناء شبكة التطويق المنزلقة؛ ويشمل الصيد التقليدي أربع فئات هي رأسيات الأرجل (الرأس قدميات) والقشريات وأسمك الأعماق وأسماك السطح. 

 

وعلى الرغم من هذا التعريف الذي يرى كثيرون ضرورة مراجعته فإننا نجد العديد من الزوارق المصنفة تحت "الصيد الشاطئي" وهي تدفع رسومها كصيد تقليدي (في الرخصة تجد الطول أكثر من 14 م أما الرسوم المدفوعة فتساوي نفس الرسوم  التي يدفعها زورق صيد تقليدي).

 

وفيما يخص الواقع المعاش للصيد التقليدي فأكتفي بذكر بعض حقائقه المرة والتي يستشف من خلالها بعد أفق وصول هذا القطاع إلى الوضعية التي يحلم بها كل موريتاني مخلص لوطنه وغيور على مصالحه.

 

ومن تلك الحقائق الأليمة ابتعاد إيمراغن شيئا فشيئا في العشريات الأخيرة عن الممارسة الفعلية لعمليات الصيد؛ إذ نراهم يهاجرون عن قراهم نحو المدينة للتقري ويهجرون الصيد لممارسة مهن أخرى حضرية أو تتعلق بالتنمية الحيوانية؛ كما منها التخلي التدريجي لأهل انجاغو عن ممارسة الصيد وتوجههم نحو استجلاب  صيادين أجانب مهرة ليقوموا عنهم بعمليات الصيد في البحر.

 

ويشكل الطامة الكبرى في هذا الموضوع تنامي وجود مجموعات تنافس المواطنين على مستوى مختلف شعب قطاع الصيد التقليدي : شركات قوية ماديا أو تتمتع بمزايا خاصة وصيادين أجانب يحملون أوراق مزورة  في بعض الحالات ويعملون تحت حماية متنفذين في الدولة من المهنيين والمنتخبين وغيرهم، أنتشار شركات لدقيق السمك أجنبية واقعيا وتعمل تحت أسماء موريتانية ظاهريا، انتشار السفن المؤجرة وهو ما يتعارض مع سياسة توطين أنشطة الصيد التقليدي عبر تطوير أسطول وطني ويد عاملة موريتانية مؤهلة.

 

ولكي يتضح الأمر أكثر وتعم الفائدة إليكم الوجه الحقيقي الحالي للصيد التقليدي في بلادنا والذي يعبر عنه ما يلي:

 

أ‌) الفشل في تحقيق المطلب المتعلق بسفن لها مواصفات فنية تتماشى مع عقليات مواطنينا وخصوصياتهم الاجتماعية والثقافية من ناحية ومع طبيعة أنواع ثرواتنا وظروف مياهنا البحرية؛ وأذكر هنا بأن هذا المطلب جاء بعد أن تأكد الجميع بأن الأجانب لا يقبلون لا بالتخلي عن سفنهم ولا بصعود الموريتانيين على متنها من أجل التكوين وذلك لأسباب موضوعية وهي أن سفنهم تشكل في البحر غرف نوم وصالونات استراحة ودورات مياه ومراحيض في نفس الوقت؛    

ب‌) العجز المستمر في اليد العاملة المؤهلة رغم ما أنفق في التكوين منذ مشروع الصيد التقليدي في الجنوب في ثمانينات القرن الماضي وحتى اليوم، وما دورات التكوين التي تسمعون عنها عبر وسائل الإعلام إلا فرصة يحصل من خلالها من لهم وساطة على منح  يتوجهون بها إلى مجالات أخرى أو يسدون بها حاجات آنية ؛ وهذا العجز يظهر جليا في بعض صيد الأسماك القاعية بالخيط (حوت الكشبة) والأسماك السطحية التي يتطلب اصطيادها استخدام جملة من الآليات والتقنيات (أنواع عديدة من الشباك)؛

ت‌) غياب طبقة من الصيادين الموريتانيين المستقلين أعني يملكون وسائل إنتاجهم (السفن) وقادرين على تمويل أنشطتهم بأنفسهم ويملكون قرار تسويق إنتاجهم؛ الجميع يعلم أن من تعلموا من المواطنين صيد بعض أنواع الثروة مثل الرخويات ومجموعة من الأسماك يشتغلون غالبا على متن سفن تحت رحمة مالكيها الحقيقيين من بين السماكين أو أصاحب المصانع،  و هؤلاء الملاك هم من يزودون السفينة وطاقمها بالبنزين وآليات الصيد والأكل والشرب مقابل بيع الانتاج بثمن معين؛

ث‌) عدم ضبط عدد السفن العاملة في مجال الصيد التقليدي والفوضى العارمة التي تطبع  مختلف أنشطته حيث نرى الوزارة تقول أن أسطول الصيد التقليدي يتكون  من  9273 وحدة والمعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد يقول 6800 وحدة والمهنيون يدعون في الحالتين أن لديهم 1500 زورقا تقليديا لم يتم ترقيمها ؛ 

ج‌) عدم وجود آليات تمويل ملائمة لظروف الصيادين التقليديين وقادرة على فك رقابهم من أسر السماكين وأصحاب المصانع ؛ وهنا لا بد من ذكر تسييس التجارب الماضية والتي شملت قروضا مسيرة وتوزيعا بطرق غير شفافة لسفن وآليات وأجهزة صيد؛

ح‌) نقص البنية التحتية حيث لا يوجد سوى 3 موانئ على شاطئ طوله 750 كم، وهذا النقص يؤدي إلى الفوضى في إنزال السفن حمولاتها ويؤثر سلبا على إحصائيات الصيد؛

خ‌) وجود  شركات أجنبية   منها ما يملك وسائل إنتاج خاصة ينافس بها الصيادين ومنها ما ينافس السماكين الوطنيين في شراء المنتوج في السوق المحلي (بولي هونك دونك وسان رايسَ)، ومنها أيضا شركات مسحوق السمك (موكا) ولا سيما منذ شاع وذاع استخدام هذه الشركات لنوع كارثي من السفن تركي الصنع.

 

تلكم أيها المواطنون بعض الإخفاقات في قطاع الصيد والتي لا تفسير لها سوى غياب إرادة حقيقية لتطويره على أسس تضمن استقلال بلادنا في استغلال كافة مكونات ثرواتنا أو سوء تسيير القائمين على قطاع الصيد ا أو هما معا. وقد يكون السبب تلاقى مصالح مجموعة من رجال الأعمال مهيمنة على الصيد التقليدي مع مصالح المسيرين الإداريين في أن يبقى هذا القطاع غير مصنف وكله فوضى ومضاربات أساسها المنفعة الشخصية.

 

وأخيرا أدعو اللجنة البرلمانية التي زارت مدينة  انواذيبو مؤخرا أن تساهم في إطلاع قيادتنا الجديدة على الحقيقة دون محاباة ولا تستر ولا تزييف كما أدعو المواطنين إلى الصبر وإعطاء سلطات العليا بمختلف مستوياتها فرصة تغيير الأوضاع إإلى ما نصبوا إليه جميعا.

 

 

 

د.سيدي المختار الطالب هامه

اثنين, 02/03/2020 - 07:00