فيروس كورونا!

خالد الفاظل

السماء زرقاء وصافية وخالية من الغبار، ونعجة الجيران تصيح بقوة منذ ساعات الصباح الأولى كأنها تود أن تخبر العالم بسر ما قبل أن تغادر الحياة ويتحول رفاتها لموائد يتم توزريعها في حفل بهيج أو عزاء حزين. وأنا أراقب ضوء النهار من خلف فتحة النافذة وهو يمضي سريعا كأنه قطار تكتظ عرباته بأخبار جيدة وأخرى سيئة والتي سيتم تفريغها في اليوم الموالي بحاويات النسيان مع بقاء بعضها محفزا على القلق ومنه وصول فيروس كورونا لجارتنا الجزائر. بجانبي جلس عاطلان عن العمل عاتبا زيدان كثيرا على إدخاله بيل مما جعل السيتي يعود لمشجعيه بأمل متصاعد، وأحدهم يرى بأن زيدان أراد إغاظة رئيس النادي ليشتري لاعبين للنادي المتكاسل عن التألق. متفرج آخر عندما شاهد غزواني في قصر اليمامة يمشي الهوينا عند كتف خادم الحرمين كمشية كاظم الساهر في أغنيته "قولي أحبك"؛ صرح بأن عليه أن يتوقف على كثرة السفر حتى لا يجلب لنا فيروس كورونا فهو لن يخضع ربما لفحص الحرارة عند العودة. أما أنا فجلست حول مائدة الشاي ووضعت سماعة الرأس ثم استمعت لأغاني متنافرة الملل والنحل؛ بعضها اسباني مع الرائع خوليو وهو يشدو كأن طبقات صوته قادمه من وراء جبال بعيدة يبتلع صداها أهازيج ذكريات تعثرت في الحنين، بعضها الآخر عراقي مع إلهام المدفعي، بعضها قادم من تلال الشام المغطاة بشجر الأرز مع فيروز وجبران، أخرى جاءت من أعماق جاميكا مع بوب مارلى، وأخرى من اليونان مع ديميس رسوس، وأخرى وصلت من أعالي النيل مع الست أم كلثوم وهي تشدو بحكمة تتجدد يوما بعد يوم:
بعد حين يبدل الحب دارا
والعصافير تهجر الاوكارَ
وديار كانت قديما ديارا
سترانا كما نراها قفارا
بعضها معزوفات عالمية خالية من الأصوات؛ وبعضها من أقليم من أزواد القريب من الوجدان، ومنهم أغنية "مستنياك" لعزيزة جلال العائدة بعد 35 عاما من الاعتزال، والراحلة رجاء بلميح وهي تغني "صبري عليك طال"، وختامهم أغنية هندية بحنجرة ملائكية لعجوز بائسة جعلتني أتخيل بأن الأمطار سقطت على قسمات العاصمة المكسوة بتجاعيد البنية التحتية وبأن الأزهار الملونة غطت الشوارع وأن أطفال الترحيل يرقصون في حديقة معلقة بأعلى ناطحة سحاب وسط المطار القديم ويغنون رائعة "نحب انطير" مع الطفل التونسي اليافع، وأن أطفال دار النعيم يتراشقون بطائرات ورقية على متنزه أخضر كبير بقرب منعرج ولد أبادو، وبأن سكان عرفات يرمون حبات القمح قبيل الغروب لأسراب الحمام قرب نافورة مياه فخمة في دوار المعرض. وأن نعجة الجيران توقفت عن البكاء بصوت مرتفع وقررت بأن تأكل الحبل الذي يربطها بالعمود حتى ينقطع وتهرب؛ لكنها حتى لو فرت فإنها ستبقى نعجة في أعين جميع العابرين؛ وربما تصاب بفيروس كورونا عندما تشاهد نشرات الأخبار المليئة تفاصيلها بالخوف والهلع والقلق من المستقبل وربما تكتشف بأن خنجر الجزار ليس بذلك السوء إذا كان المستقبل بتلك الأوبئة والفتن والحروب والمآسي التي يروج لها المتشائمون..

في المساء توقفت نعجة الجيران عن الصياح عندما أوحيت إليها بالتخاطر عن بعد عن فحوى محاضرة طويلة عن الحياة وتقلب الأقدار والتسليم، وأننا ككائنات حية نتحرك في دائرة ضيقة من الأسباب تحيط بها دائرة أرحب من تدبير الله وقلت لها:      

فيروس كورونا لن يكون أكثر فظاعة وفتكا من الحصباء والسل والكوليرا والجدري التي ضربتنا في هذه الأرض الجرداء صحبة بقية الكوارث من الجفاف والمجاعات والحروب لكننا تجاوزناهم بسلام ووصلنا إلى القرن الواحد العشرين. وجلسنا تحت ظلال لم نتعود الجلوس تحتها وصار أطفالنا يلبسون الحفاظات وباتت سلطة الخضار من عاداتنا المسائية وأصبحت فتايتنا يضعن على وجوههن الخيار والبيض لتفتيح البشرة بعدما كن يذبن فضلات البقر في أقداح الحليب الكبيرة لتفتيحها. قال لي أحدهم ونحن نستبق الغروب ذات سنة بين باسقات النخيل والشمس تقوم بسكب أشعتها على كثبان صقيلة لا توجد فوقها شجرة مثمرة باستثناء النخلة كيف حول أسلافنا سعف النخيل إلى طعام في السنين العجاف التي ابتعدت فيها السماء عن الأرض وتعثرت فيها القوافل المحملة بالميرة عن الوصول والقادمة من أماكن بعيدة لا تفصل بيننا وبينها جمارك وموانئ.

اذهبوا إلى الأرياف البعيدة؛ ستجدونهم يسكنون في أكواخ رثة ويفطرون على الأحمرين الشاي والماء المختلط بالغبار وإذا ما وصلت الشمس لكبد السماء تحلقوا حول أرز لم تربك بياضه إلا حبات من الفاصوليا(أدلكان) مع القديد اليابس إذا كان اللحم لا يداوم في قريتهم بشكل يومي. مع ذلك ما زالوا يرقصون ليلا تحت القمر ويبتسمون زوالا تحت أكواخ مثقوبة وهم لا يملكون ضمانا صحيا واجتماعيا وحسابات بنكية، وأقدامهم متشققة من المشي بطرقات وطن لا يعرفون مقاس جيوبه لأنهم لم يدخلوا فيها أيديهم، لا يعرفون نوعية فصائل دمهم ولا كتابة اسمائهم التي نحتت من المحن، ومع ذلك يواصلون الحياة بأمل متصاعد ورغبة متجددة في الكفاح ومواصلة شكر الله..

فيروس كورونا ليس بتلك الخطورة حسب الأطباء، لكن خطورته المخيفة ستكون في الأضرار الاقتصادية والنفسية جراء القلق المبالغ فيه في وسائل الإعلام ومن الدول التي ستغلق جميع معابرها ومصانعها حذرا منه وهي بذلك تفاقم من أضراره في أنحاء العالم. هو فيروس سريع الانتشار ولن تمنعه أي قوة من الوصول لكل دول العالم على أية حال...

القلق من المستقبل هو أكبر مرض يفتك بصحة الإنسان بعصر التكنولوجيا والرفاه الصحي والمعيشي. تجد الواحد يعيش في بحبوحة وأرصدته في البنوك مليئة بالدولارت ومع ذلك لا ينام بسهولة من شدة القلق من المستقبل حتى تجده يقوم بتأمين كل ما يملكه لدى "شركات التأمين" حتى حياته التي لا يعرف كيف ومتى ستنتهي! الأخذ بالأسباب أمر جيد ومطلوب بيد أن المبالغة في القلق والابتعاد عن تسليم المقادير لله؛ ليس لهما من نتائج سوى انهاك القلب والشرايين واتلاف الخلايا العصبية والراحة النفسية والعمر في قلق يؤذي السكينة والسعادة..

الوقاية خير من العلاج؛ اغسلوا أيديكم باستمرار وتجنبوا تلقي عطاس الآخرين ومزاحمة الذين يسعلون؛ في نهاية المطاف إن الحياة ستستمر ما لم ينفخ في الصور بالنسبة لنا كمؤمنين أما من لديهم أفكار أخرى عن الوجود فيتفقون معنا أيضا أن كوكب الأرض ليس خالدا. على كل حال؛ الحياة ما زالت مستمرة لحد اللحظة بطريقة ما ربما لا تكون بنفس الألق والأبهة لدى جميع سكان الأرض، وفي كل تجلياتها يجب أن نعيشها آخذين بأسباب البقاء والإعمار دون الخروج من دائرة التسليم لله حتى لا نقع في فخ الطغيان وعذاب القلق وشقاء القنوط واليأس.

هنا توجنين. الساعة 18:09 وأقول قولي هذا وأستغفر الله ولكم.

أربعاء, 26/02/2020 - 15:49