كيف وأخواتها!

Khaled Elvadhel

للذين يسخرون عادة من المتحدثين بلغة يتعلمونها بمشقة؛ أو من المتحدثين بلغتهم الأم أمام عدسة الكاميرا أو محفل فسيح ومكتظ بالمصابيح حينما تصيبهم تأتأة تؤدي إلى انقطاع الجمل وذوبان الأفكار في الارتباك. قررت اليوم بدافع الفضول والملل وأشياء أخرى التواصل مع بعض الأصدقاء في الواتساب بعربية فصحى خالية من شوائب الدارجة والسيدة "donc". وعندما استمعت إلى مقاطعهم ومقاطعي حسبت أنني استمع لشخص يتعرض للتعذيب بغية الاعتراف بذنب لم يرتكبه، وأن كل واحد منا "متفجر نفسه"..
لكن مع التمرن والاسترسال انتظمت الكلمات وانسابت كقطيع من الأغنام ينحدر من أعالي التلال الخصيبة جهة الجداول في السفوح وبدا الأمر جميلا وممتعا. لذلك قررنا تعميق التجربة وخوض غمارها من حين إلى حين؛ وإن توارت جملنا في بادئ الأمر وراء مقاطع صوتية مألوفة تذكر بالمسلسلات المكسيكية المدبلجة أواخر التسعينيات وبرنامجي المناهل وكيف وأخواتها اللذين أنتجتهما الأردن وبثتهما التلفزة وتعلمنا منهما الكثير.

العربية لغة جميلة ورومانسية وعلمية ولا تتحمل وزر الخمول العلمي والتقني الذي أصاب ناطقيها مع ضعف الثقة بأنفسهم عندما يدخلون الأماكن العامة، فتجد الشاب يتهجى لغة موليير بغية نطق "S'il vous plait" ليطلب ديكا مشويا من مطعم في أعماق عرفات بعيدا كل البعد عن جادة الشانزليزيه وبرج إيفل ناطقا الغين رغم عدم وجود الراء في الجملة حتى يتأسى بالملك لويس العاشر وكان يمكنه أن يقول: " يبوي عدلي ديك حالا". ربما الحسانية قليلة عبارات الامتنان واللباقة، لكن يمكن ترميمها بالعربية الفصحى ونقول: "من فضلكم" فلقد خرجت من رحم الفصحى، أو استخدام إحدى اللهجات الأخرى ولا حاجة إلى فرنسة الاحترام والتمدن. النظافة والأناقة والتمدن تطورا مع المسلمين في الأندلس؛ لكنكم تخليتم عن العمران والتفكير والعلوم ففشلتم في صناعة المناديل والملاعق والسيارات.

اللغة مخزون ثقافي وتاريخي يغذي وجدان ناطقيها، وإبعادها عن التعليم والاقتصاد قتل بطيئ لها ومهما كان حضورها قويا في الإعلام والآداب والفنون. من المعيب أيضا إقحام العواطف لغير موضوعية وجعل العربية في صراع مع اللغات الأخرى. لا ينبغي للأباء تجاهل الواقع المشين؛ أولادكم يدرسون الفيزياء والعلوم بالفرنسية والوصفات الطبية بالفرنسية وفواتير الماء والكهرباء بالفرنسية، إنها مخلفات استعمارية تخلصت منها جل الشعوب؛ باستثناء العرب والأفارقة وبعض شعوب آسيا. جميع الشعوب الناضجة والحرة في العالم المتحضر تدرس وتتعامل بلغاتها مع إدخال اللغات السائدة في العلوم في البحث كاللغة الانكليزية مثلا. سوريا التي كانت تدرس الطب بالعربية تعيش مأزقا كبيرا والعثمانيون فضلوا كتابة لغتهم بالحروف اللاتينية منذ أتاتورك، العراق يعاني الأمرين، ومصر بدأ بعض روائييها يكتبون باللهجة(سيبني باء)، وإيران تدرس بالفارسية رغم أنها تمسكت بالحروف العربية. الواقع المر يجب تغييره نحو تعريب الطب والعلوم لكن ذلك يتطلب نضجا واعتزازا وثقة بالنفس لم تلح بوادرها بعد بسبب التخلف والصراعات العشوائية بمحيطنا العربي والإفريقي ونمو الهويات الانفصالية المبتكرة. الطريق نحو التطور طويل وشاق جدا ونحن نريد أن نختصره بالعواطف الكسولة والأمنيات الخرافية وتلك أمامها "مججة". والكلمة بين ظفرين تنطق جيمها جيما فارسية.

كانت تجربة الحديث بالفصحى ممتعة ومفيدة للتمرن؛ خاصة لمن لديهم نيات مبيتة للتطبيل والظهور في الندوات والبرامج والمؤتمرات العلمية بين ظفرين طبعا. كما أنني كمهتم بتوقع ملامح المستقبل، أتوقع في ظل التطور التكنولوجي المتلاحق والمذهل موت النصوص والتواصل المكتوب بأرشيف المكتبات الورقية والرقمية وخروج النصوص من التداول اليومي وطفرة في التواصل الصوتي والمرئي غاية في التطور. لذلك التمرن على الحركات الفيزيائية لعضلة اللسان بغية تحويل التفاعلات الكيميائية للأفكار إلى أصوات منتظمة أمر مهم ومفيد.
الصورة المرفقة لبرنامج كيف وأخواتها.
تنويه: للأمانة؛ فكرة التحدث بالفصحى في الواتساب مستوحاة من تدوينة للمدون أحمد عمو مصطفى منذ أيام.

هنا نواكشوط. بالمناسبة المناخ تغير، الأجواء اليوم كانت كثيرة الغبار وحارة ونحن في فبراير. أظن أن التصحر يطاردنا بشكل جدي ومتسارع، يجب أن نتدارك البيئة قبل فوات الأوان.

الساعة 22:23 وأقول قولي هذا وأستغفر الله

اثنين, 10/02/2020 - 16:26