مهرجان كان: "صبي من الجنة"... الشرطة السياسية المصرية في دهاليز جامعة الأزهر

مرة أخرى، يضع المخرج السويدي من أصل مصري طارق صالح جزءا من النظام السياسي المصري تحت مجهر كاميراته، في عمل عرض بمهرجان كان ولم يمر مرور الكرام، بل بدأت الانتقادات خاصة في الصحافة المصرية تعيب عليه أسلوبه السينمائي المعتمد في صياغة هذا العمل.

وبهذا الفيلم الجديد، يكرس المخرج الخمسيني ميله لمعالجة التطورات التي تجري في بلده الأصلي، وتمسكه بالفيلم السياسي كقالب فني، يعبر فيه بطريقته عن مواقفه مما يدور في أحد أكبر الدول العربية، والتي تبقى ساحتها السياسية كما هو شأن غالبية البلدان العربية بالغة التعقيد.

ويحاول في عمله هذا أن يفكك من الداخل، بأسلوب سينمائي بسيط، التأثير الخفي للسلطة على جامعة الأزهر والعمل على أن تكون باستمرار تحت رقابتها، لأنها مسألة مرتبطة بـ"الأمن القومي"، حسب أحد أبطال الفيلم. ولا يمكن لها أن تسمح بتعيين أشخاص على رأسها إلا بتزكية منها، أشخاص تثق بهم ولا يشكلون أي تهديد لمصالحها سواء بداخل الجامعة أو خارجها.

منحة لمتابعة التعليم في جامعة الأزهر

الفيلم هو قصة الشاب رائد، الذي يؤدي دوره الممثل الفلسطيني توفيق برهوم، يعيش في قرية صغيرة إلى جانب شقيقيه ووالده الصياد. وسيحصل في يوم من الأيام على منحة لمتابعة تعليمه في جامعة الأزهر بتزكية من إمام مسجد القرية. طبعا، كان حدثا غير عادي بالنسبة لهذا الشاب الذي يرى في الجامعة الإسلامية مصدرا للعلم الشرعي ومنهلا لتطوير معارفه الدينية، كما ستكون بالنسبة له فرصة لا تتكرر لاكتشاف القاهرة وعوالمها.

وبمجرد حلوله ضيفا جديدا على هذه الجامعة العريقة، التي لها مكانتها الخاصة في الإسلام السني مصريا وعربيا، والأمني أيضا على المستوى الداخلي للبلاد، سيكون محط محاولات استقطاب من تيارات سياسية تنشط في هذه المؤسسة، ومن طرف جهاز الاستخبارات أيضا لتجنيده كعميل لصالحها. وشخصيته الضعيفة لن تساعده على البقاء صامدا طويلا ومستقلا عن الطرفين حتى لا يقع تحت تأثير أي منهما.

تزامن وصوله إلى الجامعة واكتشاف عوالم القاهرة مع وفاة شيخ الأزهر، وهو ما سيزيد من التهافت على خدماته خاصة من "مباحث أمن الدولة" وهي نوع من الشرطة السياسية، التي كانت بحاجة لاستنفار عملائها داخل هذه المؤسسة لإيجاد من يخلف الشيخ المتوفي، يكون مواليا لها وبعيدا عن التيارات السياسية المناوئة لها.

وأثناء البحث للوصول إلى منفذ جريمة قتل فيها طالب عميل للسلطة بالجامعة، سيستغل ضابط أمن الفرصة لاستدراج رائد والضغط عليه يوما بعد يوم حتى يوقعه في شباكه، ليتحول لمخبر له، يحيل له كل المعلومات التي يطلبها، متعهدا له أنه سيظل تحت حمايته، لأن السلطة لا تتخلى عمن "يتعاون معها".

لكن مجريات الفيلم ستُظهر العكس. وتكشف مع توالي المشاهد أن السلطة تأكل مخبريها. والعميل الذي كانت تزعم التحقيق في مقتله، قتلته هي، ولم يعد بإمكان رائد أن يتراجع للخلف في علاقته معها. فأي خطوة إلى الوراء، أصبح مهددا بأن يؤدي ثمنها غاليا، وما عليه إلا تنفيذ أوامر البوليس السري، خاصة وأنه ظل تحت تهديد إلصاق تهمة قتل الطالب العميل به.

ستحقق السلطة مبتغاها وتنصب الشخصية التي تختارها على رأس الأزهر. وسيعود رائد من حيث أتى خاوي الوفاض. فيما يخرج المشاهد من القاعة مذهولا بين كل هذه الترابطات بين الدين والسلطة وحضورها الخفي والقوي في دهاليز مؤسسة دينية. هل هي الحقيقة كاملة أم أن المخرج بالغ في تصويرها وتضخيمها؟ نموذجان من الأسئلة التي قد يطرحها المشاهد وهو يغادر قاعة العرض.

"سذاجة سياسية ومراهقة فكرية"

كما كان متوقعا، هاجم عدد من النقاد الفيلم، وقللوا من قيمته الفنية، وهناك من اعتبر أن الأسلوب السينمائي المعتمد فيه قد تجاوزه الزمن، استخدم في سنوات الخمسينات بل حتى الأربعينات خاصة في الجزء المرتبط بدور رجل الاستخبارات الذي يجند عملاء، يكون دورهم نقل ما يدور في جامعة الأزهر.

وعلى مستوى الشكل، كتب طارق الشناوي "في المصري اليوم" أن "اللهجة لم تكن مصرية مئة بالمئة" وأنها كانت شامية، وكان المشاهد المصري مطالبا بأن يستعين في مرات عديدة بالترجمة الإنكليزية للفيلم على الشاشة لفهم الحوار.

وعلى مستوى المحتوى، كان الناقد المصري أكثر حدة في انتقاده لمحتوى الفيلم، معتبرا إياه "افتراضي درامي لا يعبر عن الحقيقة"، ليلخص منظوره لـ"صبي من الجنة" بالقول إنه "سذاجة سياسية ومراهقة فكرية".

وعلى غرار "حادث النيل هيلتون" الذي صور في المغرب، لم يصور "صبي من الجنة" في  مصر بل في تركيا. وفاز طارق صالح في 2005 بجوائز عديدة في أوروبا والولايات المتحدة عن الفيلم الوثائقي الذي أنتجه عن سجن غوانتانامو العسكري.

وفي تصريح لوكالة الأنباء الفرنسية، قال المخرج: "لم أعد إلى مصر منذ تصوير ‘حادث النيل هيلتون‘ عام 2015، عندما أمرتنا أجهزة الأمن المصرية بمغادرة مصر. منذ ذلك الحين، أصبحت شخصا غير مرغوب فيه سيتم توقيفه حتما إذا وطأت قدماه الأراضي المصرية".

وشدد على أن شريطه بمثابة "رسالة حب" إلى مصر وتحية لأجداده. وأضاف، بفيض من المشاعر "أحب المصريين ولغتهم... وهي كالموسيقى بالنسبة لي عندما أسمعها، مع أن مستواي في اللغة العربية كارثي! ".

"فيلم قوي وجميل"

وخلف الفيلم انطباعا خاصا لدى الجمهور في كان، وصل إلى حد الدهشة، لأنه عمل "قوي وجميل لا يمكن ألا أن يحركنا" تقول الفرنسية كريستيل، التي أضافت "أنا مندهشة مما شاهدته. هو عمل سياسي، يكشف المستور في نظام معين". ولا أخفيك أني "لم أندم لمشاهدته وتخصيص جزء من وقتي له. هذا المزج بين السياسة والدين لا نجده في أفلام كثيرة. هو عمل نقدي بشكل لاذع لسياسة بلد. يظهر نظاما فاسدا".

الدين والسلطة عبر شرطتها السياسية، ثلاثة عناصر "توفق لحد كبير" المخرج في تجميعها في عمل سينمائي، برأي بيدرو. ويضيف هذا البرازيلي، الذي يقدم نفسه بأنه شخص متدين، أن "الفيلم مهم يظهر لنا ثقافة أخرى، بالكثير من النقد والكثير من الواقعية أيضا. والمخرج عموما نجح في طريقة تقديم وجهة نظره".

ولبسط فكرته أكثر، يستطرد بيدرو: "هذا المزج بين الدين والسياسة أجده مهما أيضا. فمن المستحيل ألا تتقاطع السياسة مع الدين، أعتقد أن الكل متدين بطريقة أو بأخرى حتى الذين لا يؤمنون بوجود الله. لذلك من المفروض معالجة مسألة الدين سينمائيا، لكن فقط من اللازم أن يكون ذلك بطريقة هادئة، ويكون للمخرجين نوع من الجرأة والشجاعة للخوض في الموضوع مهما كان نوع الديانة".

نقلا عن فرانس 24 

ثلاثاء, 24/05/2022 - 17:46