عانى السودان عبر تاريخه من ويلات الحروب الأهلية والتطهير العرقي والانقلابات العسكرية، وهو بالتأكيد ليس البلد العربي الأكثر ثراءً أو الأقل أمية، كما أن البنى الأهلية فيه، من قبائل وعصب ومجموعات إثنية، ما زالت تحافظ على قوتها وتأثيرها على معادلات السلطة. رغم ذلك يُظهر الحراك الشعبي والنقابي السوداني تفوقاً واضحاً، ليس فقط بالقياس على المستوى العربي، بل أيضاً مقارنة بكثير من الدول، سواء كانت نامية أو متقدمة. ولا نعني بالتفوق الشجاعة في مواجهة القمع السلطوي حسب، فالثوار العرب لم تنقصهم الشجاعة عموماً، ولكن ما يميّز السودان هو مستوى التنظيم والانضباطـ، والنَفَس الطويل للثائرين والمعتصمين، وكذلك الخطاب السياسي والثقافي المتقدم، والمطالب الواضحة والمحددة، فضلاً عن تنوع الفئات الاجتماعية المشاركة في الحراك، من عمال ومهنيين وطلاب ونساء وناشطين حزبيين، الذين شكّلوا ائتلافاً شعبياً موحداً، بدون السقوط بابتذال الخطاب الهوياتي.
لا يعني ذلك بالتأكيد أن الثورة السودانية ستؤول إلى انتصار حتمي، فالمسألة السودانية شديدة التعقيد، وقوى النظام القديم والثورة المضادة، من عسكر وإسلاميين، تملك القوة المادية، والقدرة على تفجير الحروب الأهلية، والصراعات القبلية والدينية. إلا أن الحراك السوداني، وما راكمه من تجارب اجتماعية وسياسية، أنتج حالة لا يمكن تجاوزها بسهولة، ويمكن البناء عليها مســـتقبلاً، حتى لو تعرضت لهزيمة مؤقتة، ما يجعلها تستحق الدراسة، خاصة من ناحية الثقافة والثقافة السياسية: كيف يمكن بناء «شعب» من بين ركام الجماعات الأهلية والمحرضين الدينيين؟ وما الأهمية الأخلاقية لهذا البناء، والنتائج الاجتماعية المترتبة عن عدم وجوده أو فشله؟ وما الذي يميز خطاباً يتعامل مع البشر وفقاً لأنشطتهم الحياتية ومواقعهم الاجتماعية (نقابات، مهن، عمال، الخ)، عن آخر يصنّفهم وفق هويات شمولية مغلقة، لكل منها مظلمتها التاريخية، وأعداؤها الأبديون؟
معظم الثورات الاجتماعية وحركات التحرر الوطني سعت لبناء هذا النمط من الحيز العام، بوصفه الأساس لإنتاج «الشعب»، أي مجموعة ذات حقوق سياسية، ومصدر السيادة ضمن إقليم معين.
الفضائل السياسية
تتسم الحداثة السياسية بوجود حيز وطني عام يقوم على ثلاثة أسس: اللغة العقلانية المشتركة المفهومة من جميع المواطنين؛ مفهوم للمصلحة العامة، تتنافس مختلف الطبقات والقوى السياسية على تشكيله وتأويله؛ مبدأ المساواة الشكلية، فالبشر رغم اختلافاتهم الطبقية والجنسية والثقافية، يجب أن يكونوا متساويين بالحقوق والكرامة أمام القانون. أما المطالبة بامتيازات خاصة، أو تأطير البشر بأوضاع وهويات «واقعية»، فسيعني تراتبية هرمية لا يمكن كسرها، ميّزت في ما مضى مجتمعات العصور الوسطى، وحدّت من الأفق السياسي والاجتماعي للأفراد والمجموعات. هذه الأسس مرتبطة ببعضها عضوياً، فبدون لغة مشتركة لا يمكن الحديث عن مصلحة عامة، وبدون تعميم المساواة لا يمكن ترجمة التجارب الفئوية والفردية إلى لغة عقلانية يفهمها الجميع.
معظم الثورات الاجتماعية وحركات التحرر الوطني سعت لبناء هذا النمط من الحيز العام، بوصفه الأساس لإنتاج «الشعب»، أي مجموعة ذات حقوق سياسية، ومصدر السيادة ضمن إقليم معين. إلا أن هذا الحيز لا يقوم على أسس «طبيعية» أو محايدة، بل هو أيضاً مجال للهيمنة، أي إنتاج مجموعة من القيم الثقافية والأخلاقية، التي يمكن أن تصبح مشتركة بالحد الأدنى بين الأفراد والجماعات، وتصوغ كثيراً من توجهاتهم ونظرتهم للعالم و»حسهم السليم». ليست الهيمنة عنفاً عارياً أو نوعاً من الإرغام والإجبار، بل هي سلطة منتجة، تحول شتاتاً من البشر إلى متحد سياسي، يتمتع بالعمومية والمعنى.
لعل المثال العربي الأبرز على قدرة الحركات السياسية على بناء شعب، حتى بدون وجود أرض أو دولة، هو الحالة الفلسطينية، فقد استطاعت منظمة التحرير، أياً كان رأي المرء بممارساتها وتوجهاتها، تحويل الفلسطينيين من لاجئين متفرقين في المنافي إلى شعب مسيس، له مشتركاته وأهدافه وحقوقه. وأنتجت رمزياً ما يشبه حيزاً عاماً، وصل بين المخيمات المبعثرة في مختلف الدول. هكذا تم بناء الهوية الفلسطينية، وإعادة إنتاج التراث الشعبي للفلسطينيين. المثال الأخلاقي للفدائي وقى آلاف الشباب من الغرق في العدمية التي قد تسببها حالة اللجوء.
ولعل اضمحلال منظمة التحرير، بوصفها إطاراً سياسياً وثقافياً، هو أحد أهم أسباب الوضع المؤسف الذي يعيشه الفلسطينيون حالياً. إلا أن الحالة الأشد بؤساً هي الحالة السورية، حيث أدى غياب التأطير السياسي، بما يرافقه من قيم، إلى كوارث مرعبة. لم تكن سوريا البلد العربي الأسوأ ظروفاً قبل الثورة، من حيث المستوى المادي أو التعليمي، ولكنها أنتجت الظواهر الأكثر توحشاً ولا أخلاقية على المستوى العربي. ليس فقط من قبل نظام الأسد، فقد تمت إعادة استنساخ ممارسات النظام، حتى في المناطق الخارجة عن سيطرته، ومن جانب بعض من ثاروا عليه.
مسخ التقاليد
مع انهيار سلطة الدولة، أو تراجع قدرتها على الهيمنة، من المفترض أن البنى الأهلية ستقوم بملء الفراغ الأخلاقي، خاصة في مجتمعات توصف بـ»التقليدية»، مثل المجتمعات العربية، إلا أن هذه البنى أظهرت عجزاً أخلاقياً شديداً، فلا هي تمكنت من ضبط ممارسات أبنائها، ولا استطاعت فرض قيم تحمي الفئات الأضعف من الانتهاك، أي قيم مجتمعية أو دينية هذه التي تسمح بخطف النساء واغتصابهن، التعذيب والتمثيل بالجثث، القتل الجماعي والإعدام على الهوية، تجنيد الأطفال، الخ؟ ربما كان الفهم السائد لـ»التقليد الاجتماعي» قاصراً، فالبنى الأهلية، في الشرط العربي المعاصر، لم تعد قادرة على إنتاج القيم الأخلاقية، ونقلها بين الأجيال، بعد كل التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي تعرّضت لها. ما بقي من التقليد هو العصبية، أي صراع المجموعات الأبوية على فتات المكاسب والامتيازات، وإذا كان الاقتتال الأهلي نوعاً من الفلكلور المترسخ في المنطقة، فقد أعادت ممارسات الدول العربية، في مرحلة ما بعد الاستقلال، بناء هذا الفلكلور على أسس جديدة، فهي أنشأت نظاماً هرمياً لشراء ولاء الجماعات الأهلية، بتوزيع المكاسب والريوع عليها، واعتمدت على عصب دون غيرها في تثبيت حكمها. والنتيجة توازن هش، واقتتال أهلي يندلع بشكل دوري.
لا يقتصر الأمر على دول المشرق العربي، فحتى في الدول المغاربية، التي يشيد كثيرون بتجانسها الطائفي، تمنع العصبوية تشكّل العمومية الوطنية، فنرى الانقسام بين «قبائل» وعرب، ساحل وداخل، معرّبين وفرانكفونيين، إلخ. لا يمكن اعتبار العمومية حالة متحققة سلفاً بسبب خصائص جوهرية لدى السكان، بل هي لا تكون إلا نتيجة ممارسات سياسية وثقافية معينة، ومثل هذه الممارسات غائبة في المشرق كما المغرب، إلا في حالات استثنائية، نراها أساساً في تونس والسودان.
التجاور بين مجتمعات أهلية تقليدية وفئات اجتماعية أكثر تحديثاً، في إطار ثوري واحد، معروف ولديه الكثير من النماذج التاريخية. منها الثورة الروسية نفسها، التي اتسمت بتوتر العلاقة بين البروليتاريا والأغلبية الفلاحية.
المثال السوداني
ليس السودان بأقل عصبوية من جيرانه العرب والأفارقة، إلا أنه يتميز بإرث سياسي تمت المحافظة عليه، رغم كل موجات الأسلمة وتصحير الحيز العام. السكة الحديدية التي بناها الاستعمار البريطاني-المصري، وتطوير الموانئ وبعض الصناعات، أنتجت، رغم محدوديتها، طبقة عاملة تنظمت نقابياً وسياسياً منذ البداية، وارتبطت بحزب شيوعي هو الأقوى عربياً (إلى جانب نظيره العراقي، الذي لم يستطع المحافظة على إرثه السياسي). هذا التقليد النقابي والسياسي مازال مؤثراً على الحياة العامة السودانية حتى اليوم، فنرى تجمعاً نقابياً يقود حراك الشارع، مع دور، قد يبالغ الأعداء والأصدقاء في تقديره، للحزب الشيوعي، لا نجد مثيلاً عربياً لهذا إلا في تونس، التي لعب اتحاد الشغل دوراً أساسياً في ثورتها.
التجاور بين مجتمعات أهلية تقليدية وفئات اجتماعية أكثر تحديثاً، في إطار ثوري واحد، معروف ولديه الكثير من النماذج التاريخية. منها الثورة الروسية نفسها، التي اتسمت بتوتر العلاقة بين البروليتاريا والأغلبية الفلاحية. في الظرف العربي لا يؤدي طغيان الأهلي والهوياتي إلا إلى الحروب والانحطاط الأخلاقي والثقافي الشامل، في حين استطاع الإطار السياسي الحديث تقديم تجارب أكثر تقدماً وأخلاقية. العسكر والإسلاميون ومشايخ العصب والمذاهب ينتمون إلى السياق الأول، فيضعوننا دائما بين خيار الاقتتال الأهلي أو الدولة الديكتاتورية الفاشلة. الثوار في السودان يقدمون لنا صورة جديدة للشعب: «نحن» المنظمون في نقابات وجمعيات ولجان ثورية، في مقابل «الكيزان»، أي العسكر والإسلاميين والمليشيات القبلية. المثال السوداني قادر على إعطاء أسلوب العمل والتوجه العام: نحن لا تنقصنا الهويات، بل النقابات والقوى السياسية الفعالة، ولا نعاني مشاكل مع قلة «الاعتراف الثقافي»، بل مع غياب الحقوق السياسية والحريات الفردية وحقوق العمل والتنمية الاقتصادية. الأسلمة السلطوية لم تجعلنا أكثر أخلاقاً، بل أغرقتنا في ممارسات اجتماعية وثقافية غاية في التوحش والقسوة، وأرجعت الثقافة العربية عقوداً إلى الوراء. لا توجد بالتأكيد حلول سحرية للأزمات العربية، وليس بإمكان أي ثورة، مهما بلغت روعتها ووضوح خطها السياسي، تحقيق كل طموحات التغيير، ولكن التراكم في مجال الثقافة السياسية قد يساهم بالخروج من الدائرة المفرغة. المطلوب ليس «ثورة وعي» مجردة، بل تغيير على مستوى المؤسسات الاجتماعية. بهذا المعنى ربما كان علينا جميعاً أن نكون سودانيين، أياً كانت مآلات الثورة السودانية الحالية.
القد س العربي