العرب و«السترات الصفراء»…جهلٌ وغُبن وحقد

توفيق رباحي

علاوة على أخبار التخريب والمواجهات مع الشرطة والدرك، حملت احتجاجات «السترات الصفراء» في فرنسا الكثير من الطُرف والطرائف، وكان صداها قويا خارج فرنسا. قصة الحب التي نشأت في ذروة الاحتجاجات وتحوَّلت في زمن قياسي زواجا باركه الشارع، إلى الخوف الذي انتاب الكثير من الحكومات (بلجيكا وهولندا المجاورتين ومصر وتونس والعراق)، وصولا إلى تحليلات سمجة ومجانبة للصواب حمّلت أبناء المهاجرين مسؤولية الخراب الذي أصاب الممتلكات. هذا ناهيك عن سخرية بعض قادة الدول مثل الرئيس ترامب وإسفاف بعض المذيعين العرب والمصريين بالخصوص.
كعادتهم وقف العرب بين منبهر وشامت. في الحالتين، كانت مشاعر مدفوعة بالغبن ومراراة الانهزامات الكثيرة والانكسارات المتتالية. ثم عمّقها إقرار الرئيس إيمانويل ماكرون بأحقية مطالب المتظاهرين وشرعية احتجاجاتهم، واستجابته لبعض مطالبهم. الشامتون والمنبهرون معا يدركون أن هذا ما يستحيل أن يحدث في دولة عربية في السياق السياسي والذي تمر به المنطقة.
من مشاعر الهزيمة والإحباط ذاتها، ارتفعت أصوات عربية تلقي بمسؤولية التخريب الذي اجتاح المدن الفرنسية على أبناء المهاجرين. وطبعا المقصود بالتهمة هنا هم المغاربيون، وليس الفرنسيين من أصل برتغالي أو إيطالي أو حتى أفريقي. الفرنسيون ذاتهم لم تتح لهم فرصة إجراء مسح دقيق يحيل إلى تصنيف المحتجين، والمخربين منهم، وفق انتماءاتهم العرقية والدينية. لا أحد تجرأ على اتهام الشباب المهاجرين، لا التجار المتضررون ولا سكان باريس الغاضبون من حجم الأذى الذي سببته لهم الاحتجاجات ولا الشرطة ولا الحكومة. حتى عتاة اليمينيين المناهضين للأجانب والعرب في السياسة والإعلام والأوساط الثقافية لم يتهموا أبناء المهاجرين كما فعلت بعض الألسنة العربية البعيدة عن فرنسا والجاهلة بها.
ما رجحته التحليلات أن المحتجين غلب عليهم سكان المناطق المحيطة بالمدن الكبرى، وأن أغلبهم من العاملين بكدّ وشقاء. هذا كل ما في الأمر. ما عداه تحليلات واجتهادات خائبة تنمُّ عن أميّة وجهل بالمجتمع الفرنسي. أما المنطلق فعُقدٌ اجتماعية ونفسية تجاه بني جلدتنا أبناء المهاجرين.

لم ترتفع أصوات فرنسية خائفة أو تحذّر من تأثير هذه الجوانب على المجتمع الفرنسي. كأن الرسالة المبطَّنة هي أن العنف مقبول من الفرنسيين الأقحاح ومرفوض من الفرنسيين المنحدرين من الهجرة

إذا كان هناك من ذكاء يُحسب لأبناء المهاجرين المغاربيين، هذه المرة، فيجب أن يكون على كونهم بقوا خارج دائرة المواجهات. أحُسبَ ذلك لهم أم عليهم، سيسجل التاريخ أن أبناء المهاجرين لم يشاركوا في الخطوط الأولى من احتجاجات «السترات الصفراء».
من الممكن البحث في أسباب وقوف أبناء المهاجرين على الحياد، بالتذكير بدايةً بأن الاحتجاجات دعا لها ونفذها رجال ونساء بلغوا من العمر ما سمح لهم بولوج سوق العمل، ثم الاحتجاج على ظروف العمل وعوائده. في المقابل لا يزال الكثير من أبناء المهاجرين خارج سوق العمل، إما بسبب العمر (شباب)، وإما لأن سوق العمل لا تستوعبهم بسهولة لأسباب اجتماعية واقتصادية وأخرى. «أبناء الضواحي» الذين خاضوا مظاهرات ومواجهات سابقة مع الشرطة، كانوا مدفوعين بأسباب مختلفة، أبرزها مشكلة الهوية. وهذه مصيبة يتفرع عنها شعور بالعجز عن الاندماج، يترتب عنه هو الآخر تهميش وغبن الاجتماعي وعزلة نفسية وثقافية. أما سوق العمل فكانت آخر مطالب محتجي الضواحي في السنوات الماضية. هي إذن احتجاجات ما قبل سوق العمل، بينما تخوض «السترات الصفراء» اليوم احتجاجات ما بعد ولوج سوق العمل والخيبة منه.
أما الذين شوهدوا في الاحتجاجات الأخيرة يحملون أعلام دول أجنبية (الجزائر مثلا)، فكانوا أقلية وظهروا مندمجين في المسيرات. لم يُلحظ أن أحدهم حمل شعارا من شعارات غضب الضواحي، أو آخر يحيل إلى الهجرة وتفرعاتها. ولم يرد أن الكاميرات المصوّبة التي كانت تغزو الأمكنة التقطت أحداً منهم بصدد ارتكاب ما يحظره القانون. (ولا يبدو أن هذا «الغياب» أزعج أقطاب اليمين المتشدد. ربما لأن حضور «الأجانب» كان سيمس نُبْل المظاهرات ويقلل من طُـهرها، من وجهة نظرهم، ويحرفها عن مسار أهدافها ولو قليلا).
لهذا كله لم يصاحب التظاهرات في صالونات السياسة والإعلام ذلك النقاش الممل عن الثقافة والدين و«قيم الجمهورية» وغيره. ولم ترتفع أصوات فرنسية خائفة أو تحذّر من تأثير هذه الجوانب على المجتمع الفرنسي. كأن الرسالة المبطَّنة هي أن العنف مقبول من الفرنسيين الأقحاح ومرفوض من الفرنسيين المنحدرين من الهجرة.
لكن هناك رسالة أخرى لم تلتقطها الأصوات العربية الجاهلة التي اتهمت أبناء المهاجرين بالتخريب: فرنسا بلد الامتيازات الاجتماعية والعلاوات. والاحتجاج جزء من تركيبة الشخصية الفرنسية. التخريب وسدُّ الطرقات بالمتاريس هو تجسيد لهذه الشخصية كلما ساد خوف من أن هذه الامتيازات في خطر.
من كان لديه شك يقرأ عن سوسيولوجيا الثورة الفرنسية (1789)، وانتفاضة 1968، وكذلك الاحتجاجات الحالية. من طرائف احتجاجات «السترات الصفراء» أن فرنسيين، يجوز وصفهم بالسلبيين أو المحايدين، شاركوا على طريقتهم بأن أغلقوا بالمتاريس شوارع بعيدة عن مسارح المواجهات وخالية تماما من أي مظاهر أمنية. كان ذلك تعبيرا رمزيا عن الوجود، وتذكيرا آخر بتركيبة الشخصية الفرنسية العنيدة.

القدس العربي

ثلاثاء, 22/01/2019 - 10:47