الإله الاسرائيلي وشوكة غزة التي في حلقه!

خالــد شــحام

كيف يمكن تحويل شيء ما على المستوى الأرضي إلى آلهة ؟ وكيف يمكن تعظيم شيء أو وضعه بمنزلة القداسة والمهابة القسرية أو الطوعية ؟

يكفي لحدوث ذلك أن تنحني أمام الشيء ، ثم لتتجلى ذروة التأليه يمكنك الانتقال من الانحناء إلى الركوع ضمن شيفرة الرمزيات الفطرية البشرية ، هذا تماما ما يحدث مع  الواقع حيال الكيان الصهيوني والعصابة المجرمة التي تقوده وتحرك خططه ومساراته عبر العالم ، ففي الوقت الذي نشاهد فيه انتقال العالم من منطق الانحناء  إلى الركوع  أمام هذا الكيان ، نفهم تماما أن هذا الشيء  يحاول الوصول الى منزلة التأليه بالمناعة  والقوة والهيمنة المطلقة على مستوى شامل  ، لقد انخفض هذا العالم  بكل قياداته ومؤسساته  بما فيه الكفاية ليصبح هذا الكيان آلهة أرضية زائفة يكاد يعلن ملكه على كل الأرض.

في يوم الأربعاء الماضي يخرج ملك الكذب نتانياهو على الملأ الاسرائيلي ليعلن عن التصديق على  أكبر صفقة لبيع الغاز الفلسطيني  لمصر وبقيمة تبلغ 112 مليار (شيكل ) أو  حوالي 34 مليار دولار ، وبهذا التصريح الاستعراضي يعلن الرجل عن مجموعة فتوحات جديدة للدولة العبرية تنطوي كالعادة على أكبر قدر من الإهانة والإحراج للعرب وتحقيق التمجيد والتأليه لشخصه وحجز مقعده الانتخابي في عام الدم القادم ، يغمز هذا المخلوق من خلال هذا الإعلان إلى عدة حقائق ويبعث برسائل معنوية وتحضيرية  لكل الأطراف عربيا وعالميا لكي يفهم الجميع بأن الأمر ليس الأمر مجرد صفقة تجارية ، أولها هو ان الموافقة على هذه الصفقة قد تمت بعد التمنع الظاهري مقابل أثمان ما لا تزال طي الكتمان ، فالثمن بالتأكيد  ليس مجرد سيولة اقتصادية فقط تنعش الاقتصاد الداخلي المهدد بالخطر ، وثانيها رسالة طمأنة الى الداخل الصهيوني بأن عمليات الكيان الداخلية والخارجية ونشاطاته العدوانية لم تتسبب في قطع الرزق عن خزينة الكيان ضمن موجات المقاطعة العالمية التي يتعرض لها ، أما أخطر رسالة ساخرة ملغمة في داخل إعلانه فهي بأن العرب قد كافئوه على جرائمه و تكفلوا بتغطية نفقات الحرب على اخوانهم في غزة ولبنان وسوريا واليمن ، بمعنى أن كلف القتل والتدمير والعربدة الجغرافية الواسعة ليست مجانية فحسب بل حققت ربحا صافيا للداخل الصهيوني يفوق كل المخاطر السوقية لتجارة الحرب والاهتزازات الداخلية التي تدينه بها المعارضة الاسرائيلية ، إن رسالة المجرم غير المنطوقة تكاد تكون بالصيغة الاتية : أيها الاسرائيليون الأغبياء لماذا لا تركعون لي ؟ ألم يتأكد لكم  بعد أنني المسيح الذي تنتظرونه منذ ألوف السنين ؟ لقد صنعت لكم مجدا وتاريخا لم يصنعه حتى بن غوريون ولا جابوتنسكي ، ألم آتكم برئيس الولايات المتحدة صاغرا عبدا بين يدي دولتنا ؟  ألا ترون أنني أحكم بلاد العرب من شرق الى غرب ؟ ألا ترون أنهم مستعدون لدفع كامل الكلف مجانا مقابل أن نقتلهم ونسرق أراضيهم ؟  ألا ترى يا بتسئيل ان أيدينا تلعب بهذا العالم من شرقه إلى غربه وأصبحنا سادة الأرض ؟

محاولات الوصول الى الوهية العرش الاسرائيلي  ليست وقفا على المنطقة العربية ، فالحال ليس بأفضل على الجهة الثانية من العالم ، فمن يتأمل ويتابع سلوك الأنظمة الغربية يكاد لا يجد فرقا كبيرا في الأداء مع تلك العربية ، ويتبين كل يوم أن أدوات الضغط الصهيوني موزعة مثل بيجرات حزب الله و مزروعة بشكل كامل ومبيتة داخل الولايات المتحدة والدول الغربية التي تتصرف بتناغم تام مع إملاءات المجرم نتانياهو وعصابته ، يمكنكم لإثبات ذلك اختيار أية شخصية رئيسية أو ذات مركز سياسي ثقيل في الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا أو المانيا مثلا ورؤية روح الايمان بالإله الاسرائيلي فورا ، يمكن مثلا الاستماع الى المؤتمر الصحفي الطازج  الذي عقده المؤمن الحذق ماركو روبيو بالأمس و يقول فيه  بأن فنزويلا تشكل خطرا على الأمن العالمي ! وبأن ايران ليست تحت الضغط بسبب برنامجها النووي ولكن لأنها ليست مؤدبة مع شعبها ! و يجب وبسرعة تشكيل (مجلس السلام لغزة ) من أجل سرعة دخول المساعدات ! وكما ترون فالايمان وتجلياته حلت في كلمات وجسد المؤمن روبيو إلى الدرجة التي تشعر فيها بأن روح نتانياهو تكاد تخرج من فمه .

 

 يمكنكم تلمس نفس الروح في جماعة المخدرات والعقارات من أمثال ستيف ويتكوف الزاهد  ومسعد بولس الطاهر وتوم براك المعمد  الذي يريد تطهير لبنان من ذنوبه ، أو ستارمر التائب  أو فون ديرلاين القديسة  أو المستشارالالماني الوديع  لكي تروا أثار السجود للإله  في كلماتهم وتصريحاتهم وسلوكهم ، حتى أن بعضهم انقلب الى الديانة اليهودية لآثبات عظم ايمانه بالإله الجديد ، رجاءا دعونا لا ننسى المؤمن المورموني مايك هاكابي الذي تقطر كلماته ايمانا بالرب الاسرائيلي نتانياهو ويرى في ترامب رسولا ربانيا جـاء كمساعد للإله لانقاذ اليهودية  ، ورجاء آخر بألا تنسوا الرئيس الأمريكي نفسه الذي بلغ به الايمان حد ابتلاع لسانه عن حجم الفظائع والجرائم التي يرتكبها الرب الاسرائيلي ضد شعب غزة وضد  شعوب العرب ومؤامراته  شرقا وغربا التي وصلت تخوم روسيا والبحر الكاريبي ومناجم السودان ، رجاءا لا تغفلوا عن السلام الذي حل على الرعايا بتطهيرهم بدمائهم وارتعاشهم في البرد والمطر وقتل أطفالهم وحرق أطبائهم وصحافييهم واقتلاع قياداتهم ، في الحقيقة أيها القراء الأفاضل أن الرب الاسرائيلي الذي يحضر نفسه لإعلان هيمنته المطلقة على رعاياه العرب والعجم يستعد لاطلاق جولة جديدة من الزيارات الى فلوريدا  والقاهرة وربما نسمع عن زيارات قريبة للتأليه في عواصم  غربية وعربية جديدة  شرعت ابوابها لهذا الاله الاسرائيلي  لكسب مزيد من الصلوات السرية التي تسخر له المزيد من ملائكة القتل والتجسس والهيمنة واستمرارية توفير الغطاء اللازم لإكمال الحلم اليهودي الاتساعي .

نحن الان نعايش مرحلةً من الكفر السياسي والأخلاقي الذي لم يكن له مثيلا في التاريخ  ، في هذ العصر لم تعد توجد مواقف مصنوعة لتلبية إحساسٍ بالواجب القومي أو الديني أو الإنساني  ، انسوا كل ذلك لأنه تلاشى تماما من قاموس السياسة بحلول الأله الجديد المزيف على الأرض ، لم يعد هنالك من سؤال من مثل : لماذا لا يقف العربي مع العربي أو المسلم مع المسلم أو المسيحي ؟ كيف يمكن لدولة عربية أن تفرط باخوانها العرب او تبيح قتلهم أو تتعاون في ذبحهم ؟ الأسئلة الصحيحة أمست من مثل : كم ثمن هذا الموقف ؟ ما الذي ستدفعونه مقابل قيامي بذلك ؟  هل ستحفظون عرشي لو سمحت لكم ؟ ما هي القروض الجديدة التي سأحصل عليها لو فعلت لكم ذلك ؟ كم ثمن شعبك أو ثروات بلادك وأرضها وسمائها ؟

أمام صفقات الغاز والماء والكهرباء والمعادن والطاقة ومرجع العقارات والمبيعات التي تسوقها الولايات المتحدة وترعاها بعين الرضى والطمأنينة بينما  يتربع الكيان الصهيوني في جوفها  هل تعتقدون ان هنالك محلا لإنسانية أو شفقة او رحمة أو ضمير ؟ ما الذي يهم لو قُتِل كلُ سكان غزة ؟ ماذا يفرق معهم  الناس الذين أغرقهم المطر والأطفال الذين يقتلهم البرد أو الحر ؟ ماذا يهم لو تم تدمير كل بيروت وحرق الضاحية الجنوبية ؟ ما قيمة كل شعب أوكرانيا لو تم حرقه أو ذبح كل نساء السودان ورجالها  ؟  هل للتعاطف ثمن ؟ هل للرجولة مكافىء من الدولارات أو العملات الصعبة ؟ هل لا زلتم تحلمون أيها النيام بثورة غضب للشعوب التي اغرقناها بالفقر والعوز والتجويع والترهيب والطرب والمباريات وتقديس المال والثروات والمتاع الزائف ؟

 

على كلٍ ، لا تيأسوا أيها السادة مع كل جرعة العلقم السابقة ، فحيال هذا الرب المزيف الكاذب هنالك إله حقيقي لهذا الكون  يدبر الأمر من الأرض إلى السماء مهما مكر السياسيون ومهما علا بنو اسرائيل في الأرض ، وحيال هذه الصورة الزاهية بعالم ميت مدفون في حساباته المادية والرأسمالية يوجد عالم آخر موازٍ ، كل معطياته هي الفضيلة والحق والصدق والاتفاق مع الفطرة السوية ، حيال العالم الذي تكسوه الجريمة والاغتصاب والجنس والرذيلة وجرائم القتل والسرقة والرشوات والأجساد ذات الوشوم  الذي يريده نتانياهيو ويفهم كيف يعيش فيه كآلهة مزيفة يعبدها مشتهو الخيانة والوضاعة والانبطاح والنعيم المزيف ، يوجد عالم أرضي آخر محفوف بالتعب والشقاء والبقاء في الخيام وسط المطر والبرد والحصار في انفاق معتمة تحت الأرض ويعيشون العذاب في الزنازين ، عالم تصنعه الفئة الصالحة والباقية من البشرية بعد الطوفان الأكبر القادم ، فأين هو هذا العالم ؟

في سياق اطلاعي على بعض صفحات غزة الموضوعة على موقع  فيسبوك عديم الضمير ، ثمة صفحات كثيرة تتكلم عن شباب غزة وأحداثها ومصابها وعبراتها وصحافييها ومفكريها ، صفحات من البريج والشجاعية وخان يونس وجباليا  وشخصيات ووجوه وأسماء  يتم عرضها لشهداء ، وجوه تبدو عادية في الوهلة الأولى ولكن عندما تقرأ ما كتب تحتها تصعق من هذه الوجوه المضيئة التي أصبحت نجوما في السماء ، فلان قضى نحبه وهو ينقل الجرحى ، فلان تم قصفه وهو يقاتل بثبات وشجاعة ، فلان من الدفاع المدنى انهارت عليه البناية ، فلانة طبيبة  قتلوها وهي ترفض الخروج من موقع عملها في علاج الجرحى والمصابين ، فلان من مقاتلي الصف الاول قضى نحبه بعدما أحرق ميركافا وقتل كل من فيها ، كل هؤلاء ممن يدعون عليهم بأنهم ارهابيين وفقا للسردية الاسرائيلية الكاذبة الكذابة هم مواطنون صالحون  أبرياء ينشدون الحياة بكل سبلها ، طلاب ودكاترة واطباء ومزارعين وعاملات ومربيات واصحاب مهن تم حصارهم والاعتداء على ارضهم وحياتهم وشعبهم وأولادهم لذلك اختاروا الدفاع عن أنفسهم وشعبهم وأرضهم وطبقوا تعاليم ما يؤمنون به وكفروا بكل ما أتى به الاله المزيف ، لكن من أين جاء هؤلاء ؟

في لقاء متلفز للدكتور عبد الرحمن مكي / عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عن غزة ، يسأل المذيع   : كيف تم إعداد هذا الجيل في غزة ؟

يجيب الرجل بأن أساس هذه التربية كانت من روضة الآطفال حيث تُغرس  قيم الإسلام والفضيلة والفطرة وحب الأوطان والتضحة ومعاني العطاء والإيثار ، ويأتي الدور التالي في صقل وتربية المواطن في المسجد ، حيث يلعب المسجد في غزة دورا أساسيا  لا مثيل له في العالم  في تربية المرء بشكل  يتفوق فيه على اية مؤسسة تربوية تعليمية أخرى ، بحيث يتعدى دوره كمكان للصلاة والعودة الى البيت ، فهو مؤسسة ثقافية ، علمية ، تربوية ، رياضية ، غير سياسية ، إنه خلية نحل عاملة في صناعة المرء على القيم الفضلى القرآنية  والتي هي أساس صناعة الفرد والذوبان في فكرة أن يكون منتجا أخلاقيا واجتماعيا وحياتيا ، هذا الجيل هو الذي ثبت في الميدان وضحى بنفسه بكل بطولة وايمان وحب لأرضه وشعبه وبرهن للعالم بأن غزة ستكون هي معقل الموجة الجديدة من التغيير النموذج لانقاذ هذا العالم من بؤسه وشروره .

لا حاجة لسرد العديد من الأمثلة لتأكيد كلام الدكتور عبد الرحمن ، فخلال اليومين الماضيين أقامت غزة حفلا جماعيا للزواج لما يقارب مائتي عقد زواج بين أطهر وأجمل النساء وأزكى الرجال وبدعم كريم من جمعية تركية  ، ورغما عن الدمار والموت والشهداء والغرق في مياه الامطار لا تزال غزة تبعث برسائل الأمل والبقاء والسعادة والبسمات البريئة وفاءا لكل من رحلوا ورسالة لكل هذا العالم بأنها أرض سلام وكرامة تعنيها الحياة  بكرامة ولا تبحث عن الموت ، أما في تل أبيب عاصمة الخطيئة والشر والمؤامرات  التي يريد زعيهما ان يكون الها على المنخفضين والراكعين فها هم جنده الذين كانوا يمارسون سعادتهم باللهو بتفجير ونسف بيوت الفلسطينين يتلقون العلاج النفسي في المصحات والمراكز التأهيلية من سوء الكوابيس لما اقترفته أيديهم من جرائم  ،  وها هم جنده ما بين منتحر أو فارٍ من الخدمة أو باحثٍ عن مهربٍ من تل ابيب والجحيم الذي تعيشه رغما عن كل المدنية والديموقراطية والاخلاقية المدعاة التي تعيشها عاصمة الجريمة ، غزة هي ما سيبقى وسيزول الاحتلال ، غزة هي المدرسة التي يجب ان يكون المحج اليها ليفهم هذا العالم كيف يُربي الاجيال السليمة ويصنع الرجال والحياة ، غزة هي الكتاب الذي يجب ان يقرأه  كل من يريد ان يتعلم معاني الحياة والسعادة و الصمود والبطولة والايمان وهزيمة المشروع الصهيوني بكل جنده وعتاده ، وستبقى غزة شوكة في حلوقكم حتى زوالكم .

نقلا عن رأي اليوم

سبت, 20/12/2025 - 15:55