يروي العالم المصري، أحمد زويل، في كتابه “عصر العلم” موقفاً غريباً حدث معه بينما كان يبحث هو وزوجته عن شقة في مدينة فيلادلفيا، تمهيداً لإنجاز درجة الدكتوراه في الكيمياء بجامعة بنسلفانيا.
وجد الزوجان شقة في مبنى تملكه سيدة، وحين كانت تطلعُهما على الشقة، استرسلت في شرح وظيفة الثلاجة، وكأن الزوجين يشاهدان هذا الاختراع للمرة الأولى، ومن بين ما قالته إنها “المكان الذي نحفظ فيه الطعام ليبقى بارداً”. عندها نفد صبر زويل فقاطعها قائلاً: “سيدتي، إننا في مصر لدينا ثلاجات!”.
ربما يكون هذا الموقف الغريب أو الطريف نابعاً من ثقافة سيدة أميركية محدودة لا تعرف شيئاً عن مصر أو العالم العربي، لكن الموقف، على غرابته لم يكن عدائياً.
أما الموقف الصادم الذي واجهه زويل بعد سنوات، فجاء من النخبة الأميركية. يروي أنه بعدما نال درجة الدكتوراه، قدّم طلبات للعمل في عدد من الجامعات من بينها جامعة برنستون، التي تعد جزءاً من رابطة اللبلاب المرموقة أكاديمياً.
في هذه الجامعة تعرض زويل لـــ”حادث مؤسف” من قبل أحد أعضاء هيئة التدريس، خلال أجواء حرب أكتوبر عام 1973 حين استخدم العرب سلاح البترول. يقول زويل إن ذلك الأكاديمي “كان متحاملاً، بالغ الانفعال، وعاملني بأسلوب عدائي، وقال (لي): بحق السماء.. لماذا لا ترجع إلى بلدك؟ أنتم تملكون الثروة البترولية”.
تظهر هذه القصة التي رواها زويل أن أكاديمياً في أرقى الجامعات الأميركية يضع العلم والموضوعية جنباً، وينسى أن أميركا أمة مهاجرين، ولا يستطيع التمييز بين مصر ودول الخليج، أي بديهيات جغرافية، ناهيك عن احترام الآخر الذي غاب كلياً عن كلامه. وسواء كان كلامه سهواً أو عمداً – والراجح أنه كان متعمداً – فالنتيجة واحدة: خيانة العقل والمنطق، أي القيم التي يُفترض أن يدافع عنها.
إن الكلام هنا ليس عرضاً تاريخياً، بل تحليلاً لظاهرة عامة في الغرب، أبطالها صفوة النخبة العلمية والسياسية، الذين يهدمون في دفاعهم عن إسرائيل أو في هجومهم على المسلمين والعرب أو – حتى مع المتعاطفين معهم- كل أسس العلم.
وفيما يلي ثلاثة أمثلة صادمة في الوقت الراهن، تبرز استمرار الظاهرة:
ـ أولها، الأديب المجري، لاسلو كراسناهوركاي، الذي فاز بجائزة نوبل للأدب هذا العام 2025، الذي تحدث في بودكاست عن أصول عائلته اليهودية التي لم تكن معروفة والاضطهاد الذي تعرضت له لمجرد كونها يهودية، وقال إن اضطهاد اليهود بدأ في أوروبا قبل الهولوكوست، ثم أطلق تصريحاً غريباً مفاده أنه لو كانت عائلته بين العرب لربما تقبّلوه فقط “بأن يقطعوا أنفي، ثم أذنيّ، ثم يفقؤوا عينيّ، ويقتلعوا لساني (…)، وبعد ذلك يطلقوا النار عليّ”.
يتجاهل الأديب المجري – أو يتغافل- حقيقة أن علاقة اليهود بالعرب والمسلمين كانت جيدة عموماً، وفي أسوأ أحوالها لم تصل حد مذابح شبيهة بما ارتُكب بحقهم في إسبانيا وروسيا وأوكرانيا وبولندا، أما المذابح الأضخم فكانت في الهولوكوست على يد ألمانيا النازية، وهذه النقطة الوحيدة التي أصاب فيها الأديب حين قال إن اضطهاد الرجل الأبيض لليهود لم يبدأ مع الهولوكوست، بل سبقها بقرون.
في المقابل، لم يشهد التاريخ العربي الإسلامي مذابح ضد اليهود، فمنذ فجر الإسلام، وقّع الرسول ﷺ ما عرف بـــ”وثيقة المدينة” لتنظيم التعايش مع اليهود بالمدينة المنورة. وكانت الدولة العثمانية ملجأ لليهود الهاربين من الاضطهاد الأوروبي، خصوصاً من إسبانيا التي أصدرت قراراً ملكياً بطردهم عام 1492 م، كما شغل اليهود مناصب عليا في السلطنة، وبلغ عددهم في إسطنبول عام 1590 نحو 20 ألفاً، كما يوثّق المؤرخ قيس العزاوي في كتابه “الدولة العثمانية: قراءة جديدة لعوامل الانحطاط”، وهذه مجرد أمثلة فقط.
إن المسألة اليهودية أو المشكلة اليهودية ولدت في الغرب، وسعياً لحلها أنشأ الرجل الأبيض دولة إسرائيل على حساب فلسطين وشعبها، فخلق بذلك مأساة أخرى، وإذا كان الأديب يعتبر الصراع بين إسرائيل والعرب عداءً لليهود، فهو مخطئ تماماً، فجذر الصراع هو الاحتلال، وأينما حل الاحتلال حلت مقاومة، هكذا يقول التاريخ.
ـ الحالة الثانية، سارة هوروفيتز، كاتبة خطابات الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، التي قالت خلال منتدى اتحادات اليهود في أميركا الشمالية في نوفمبر 2025، إن هناك تحولات كبيرة حدثت في الولايات المتحدة نحو اليهود وإسرائيل بعد السابع من أكتوبر 2023 خاصة لدى الشباب، تعود إلى أن “وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت مصدرنا الرئيسي للمعلومات”.
وتضيف: “تيك توك يغرق عقول شبابنا طوال اليوم بفيديوهات عن مذبحة غزة. ولهذا لا يستطيع الكثير منا إجراء نفس الحوارات مع الشباب اليهود (…)، وعندما أحاول تقديم حقائق أو حجج، لا يرون سوى مذبحة، وفي النهاية أظهر وكأنني بلا إنسانية”.
ـ أما الحالة الثالثة والأخيرة فهي هيلاري كلينتون، التي لا تحتاج إلى تعريف، فقد قالت في منتدى عقد في أكتوبر 2025، رداً على سؤال بشأن تراجع ارتباط الشباب الديمقراطي بإسرائيل، إن أغلب معلوماتهم تأتي من “تيك توك”، الذي تظل خوارزمياته – بحسب قولها – “متأثرة بالحزب الشيوعي الصيني”.
إذن المشكلة في نظر هوروفيتز وكلينتون هي مصادر المعلومات و”تيك توك”، لا في الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في غزة بقتل عشرات الآلاف من بينهم آلاف الأطفال.
هل يعقل أن الشباب الأميركي خاصة اليهودي يدركون الحقائق بينما لا تدركها كلينتون وهوروفيتز؟ هل لا تعرفان أن إسرائيل قتلت خلال عامين من الحرب أطفالاً يفوق ما قُتل من الأطفال في 22 صراعاً مسلحاً وحرباً حول العالم خلال 4 سنوات، بحسب الأمم المتحدة؟
حسناً، هؤلاء ليسوا في السلطة، كما في حالتي كلينتون وهوروفيتز وهذا ينفي وجود الضغوط السياسية ومع ذلك تستمران في الخطاب نفسه، وعليه، لماذا تمارسان التضليل؟ أليست مهمة النخب أخذ الجمهور إلى فضاءات أوسع لا أن تضيّق وعيه؟
أما في حالة لازلو كراسناهوركاي، فالأمر أفدح، إذ يفترض بالأديب أن يكون أكثر اتزاناً، بسبب عمق قراءاته وتراكم تجربته، التي من البديهي تبعده عن لغة المصالح.
وقد يعترض البعض بأن النخبة تتعرض لضغوط وظيفية أو غيرها إذا قالت الحقيقة. هذا ينسف الأساس الذي تقوم عليه الحضارة الغربية نفسها: حرية الفكر، فإذا خافت النخبة من قول الحقيقة، فمَن سيقولها؟
وللدلالة على أن الظاهرة أوسع من حالات فردية، تكفي الإشارة إلى دراسة لجامعة براندايس الأميركية في يوليو الماضي بعنوان “الأيديولوجيا في الفصل”، شملت 2200 أستاذ من 146 جامعة، وأظهرت أن 75% من أعضاء هيئات التدريس لم يطرحوا القضية الفلسطينية خلال العام الدراسي الماضي في نقاشات فصولهم. بعبارة أخرى، تجاهلوا بالكامل حرباً تُرتكب خلالها، أمام أعين العالم، جريمة إبادة، وتتورط فيها بلادهم.
ومن حق أي إنسان أن يتبنّى وجهة النظر التي يريدها، لكن من المهم أن تقوم على أسس منطقية، وأن يكون صاحبها صادقاً في عرض دوافعه، ولا سيما حين يتعلق الأمر بالنخب، لكن لم يظهر شيء من ذلك في الأمثلة السابقة.
للإنصاف، هناك الكثير من النخب الغربية وقفت بقوة مع الحق العربي أو على الأقل مع العقل والمنطق، خصوصاً في الحرب على غزة، لكن هذا هو الموقف الطبيعي لشخص يقدم نفسه حارساً للعلم والعقل.
الخلاصة هي أن النخبة ليست محصنة ضد التحيز، بيد أن تحيزها خطير كونها تحتل مكانة اجتماعية، يمكن أن تستغلها لتمرير مصالح تتناقض مع سبب وجودها.
كذلك، فإن النخب الغربية كلها ليست “نقية تماماً ولا متقدمة للغاية”، كما يظن البعض منا عندما يقارنون حالنا بحال الغرب. الكثير من النخب الغربية داست وتدوس على العقل والمنطق، رغم أن ما نطلبه منها ليس مستحيلاً: كونوا أوفياء لعلومكم وعقولكم.











