تشكّل زيارة ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان لواشنطن والتقارب السعودي–الأميركي في لحظته الراهنة أكثر من مجرد إعادة الدفء لعلاقة تاريخية بين البلدين، إنه حدث قد يعيد صياغة موازين القوى في الشرق الأوسط، ويضع إسرائيل، بشكل مباشر أو غير مباشر، أمام أربعة احتمالات كبرى: إما أن تُجبَر على تقديم تنازلات للفلسطينيين استجابة لمطالب السعودية، أو أن تُهمَّش لقغء بناء محور استراتيجي جديد بين الرياض وواشنطن، أو أن تكتفي الولايات المتحدة بتقديم وعود غير ملزمة لولي العهد السعودي مقابل الحصول على المال والاستثمارات وإبعاده عن التعاون المتزايد مع الصين، أو أن تتبلور تسوية متوازنة تشمل ضمانات أمنية واقتصادية وسياسية مشتركة، فاي الاحتمالات الاكثر ترجيحا؟؟.
أن قراءة المعطيات السياسية والأمنية والاقتصادية الحالية تُظهر بوضوح أن الاحتمالين الأكثر رجحاناً هما الثاني والثالث، أي إهمال إسرائيل مرحلياً مقابل بناء تحالف أميركي–سعودي صلب، أو اعتماد واشنطن على سياسة الوعود الكبيرة غير المؤكدة لتعزيز اعتماد الرياض عليها ومنعها من التوجه شرقاً. حيث تبرز هشاشة السيناريو الأول، المتعلق بإجبار إسرائيل على تقديم تنازلات للفلسطينيين، من خلال واقع سياسي إسرائيلي لا يتيح عملياً أي خطوة ذات مغزى. فالحكومة الحالية في تل أبيب هي الأكثر يمينية وتشدداً في تاريخ إسرائيل، وتتعامل مع أي مطلب سياسي، ولو كان رمزياً، باعتباره تهديداً لبنيتها الداخلية، واذ وبعد هجوم 7 أكتوبر وما تبعه من تداعيات أمنية ونفسية داخل المجتمع الإسرائيلي، أصبحت البيئة السياسية الاسرائيلية أكثر انغلاقاً على أي تحول استراتيجي، خصوصاً في ملف الدولة الفلسطينية. كما أن واشنطن، رغم قوتها، تعاني انقساماً داخلياً يجعلها غير قادرة على فرض مسارات سياسية على إسرائيل، وهي تخشى أن أي ضغط مباشر قد يفتح مواجهة سياسية داخلية مع اللوبيات المؤثرة ومع الكونغرس. لذلك يبقى إجبار إسرائيل على الانصياع لشروط سعودية تتعلق بحل سياسي للفلسطينيين احتمالاً ضعيفاً، ليس فقط بسبب الرفض الإسرائيلي، بل أيضاً بسبب محدودية قدرة واشنطن على فرض أثمان سياسية على تل أبيب.
أما السيناريو الثاني، القائم على تجاهل الملف الإسرائيلي–الفلسطيني مرحلياً مقابل بناء محور سعودي–أميركي جديد، فيبدو أكثر انسجاماً مع مسار الأحداث الفعلية. فالولايات المتحدة تعتبر أن السعودية، بحجم اقتصادها وطموحات رؤيتها 2030 وموقعها الجيوسياسي، تمثل الحليف الإقليمي الكامل القادر على دعم مشروع إعادة تموضع واشنطن بعد الحرب في أوكرانيا وبعد هجوم 7 أكتوبر. ولذا تمضي واشنطن بقوة نحو صياغة ترتيبات دفاعية وتكنولوجية واستثمارية عميقة مع الرياض، تشمل التعاون في الذكاء الاصطناعي والصناعات العسكرية والاستثمارات الضخمة التي قد تتجاوز 600 مليار دولار.
والحقيقة ان هذه الملفات تشكّل بالنسبة لواشنطن أولوية أعلى بكثير من الضغط على إسرائيل، وهي تدرك أن مكسبها الاستراتيجي من تثبيت السعودية في الفلك الأميركي أكبر بكثير من المكسب الذي قد تجنيه عبر محاولة إجبار تل أبيب على خطوات سياسية في ظرف إسرائيلي داخلي شديد الحساسية، و بكلمات أخرى، واشنطن تشعر أن استبقاء السعودية ضمن محورها يتطلب مرونة أكبر مع إسرائيل وليس تشدداً تجاهها.
وعلى المنوال ذاته يتعزز السيناريو الثالث، الذي يقوم على حصول الولايات المتحدة على مكاسب مالية واستراتيجية ضخمة مقابل تقديم وعود مؤجلة وغير ملزمة للسعودية او ذات صبغة عامة تعكس فلسفة الحل كما جاءت في المشروع القرار الامريكي لمجلس الامن الدولي، وهذا الأسلوب في الواقع ليس جديداً في السياسة الأميركية، فإدارات متعاقبة قدمت تعهدات واسعة لحلفائها دون أن تُرفَع إلى مستوى التزامات تشريعية تقيّد القرار الأميركي على المدى الطويل. وحيث أن المؤسسة السياسية في واشنطن تعاني انقسامات واضحة، وطالما أن صياغة اتفاق دفاعي ملزم مع السعودية تتطلب مصادقة الكونغرس، فإن احتمالية الاكتفاء بوعود سياسية واسعة تبقى عالية، خصوصاً أن واشنطن تجيد استخدام «الالتزام الخطابي» كأداة جاذبة من دون منح ضمانات تقيّد يديها مستقبلاً. ومن منظور أميركي، فان الحصول على الاستثمارات السعودية، وتثبيت التعاون في الذكاء الاصطناعي والنووي المدني، وقطع الطريق على توسع النفوذ الصيني في الخليج، كلها مكاسب يمكن تحقيقها عبر خطاب سياسي مرن لا يفرض على إسرائيل أي أثمان ولا يقيّد واشنطن مستقبلاً.
إلى جانب ذلك، تسهم الخلفية السعودية ذاتها في ترجيح هذين السيناريوين. فالمملكة حريصة على ضمان أمنها واستقرار بيئتها الإقليمية، لكنها في الوقت نفسه تدرك أن الالتزام الأميركي الدائم غير مضمون بتغير الإدارات. كما تدرك أن التطبيع مع إسرائيل دون مقابل سياسي سيشكّل عبئاً على مكانتها العربية والإسلامية. لذلك تتقدم الرياض بثبات في الملفات الدفاعية والاقتصادية والتكنولوجية مع واشنطن، لكنها تُبقي التطبيع ضمن خانة «المشروع المؤجل» إلى حين تغير الظروف أو ضمان ثمن سياسي فعلي. هذا الوضع يمنح واشنطن هامش مناورة واسعاً، ويجعل السيناريو الثاني والثالث قابلين للتكيّف مع المطالب السعودية من دون أن يخلقا أزمة مع إسرائيل أو داخل المشهد الأميركي.
من هنا، تبدو الصورة لاحتمالات ما ستسفر عنها زيارة بن سلمان لواشنطن من نتائح أكثر وضوحاً، باعتبار ان الولايات المتحدة تسعى اولا لترسيخ نفوذها في الشرق الأوسط عبر شراكة استراتيجية متقدمة مع السعودية، والسعودية بدورها تطمح للحصول على ضمانات ومكاسب طويلة المدى، فبما إسرائيل غارقة في مأزق داخلي يمنعها من تقديم تنازلات ذات معنى. وفي تقاطع هذه المعطيات، يصبح من المنطقي ترجيح أن لا تدفع إسرائيل ثمناً فورياً للتقارب السعودي–الأميركي، بل أن تستفيد من انشغال واشنطن بتثبيت حليفها الأهم في المنطقة. وفي المقابل، قد تحصل الرياض على وعود كبيرة قد تُنفَّذ جزئياً أو مؤجلاً، لكن من دون آليات إلزامية كافية لضمان تحوّلها إلى اتفاق نهائي مستدام.
من هنا فالمشهد الاكثر احتمالا لما بعد زيارة ولي العهد السعودي هو تقارب سعودي–أميركي مُربح للطرفين، إسرائيل خارجه مؤقتاً من دون أن تخسر شيئاً، ووعود أميركية كبيرة قد تحتاج السعودية لاحقاً إلى اختبار مدى صدقيتها. أما الاحتمال الرابع المتعلق بتسوية شاملة طويلة الأمد، فهو ممكن نظرياً، لكنه مشروط بظروف لا تزال بعيدة المنال. وبناء عليه، فإن السيناريوين الثاني والثالث لا يمثلان فقط الاحتمال الأكثر انسجاماً مع الواقع، بل الإطار السياسي الأكثر توافقاً مع منطق المرحلة الراهنة.
نقلا عن رأي اليوم











