لطالما كان وقف إطلاق النار، بل ووقف الحرب على قطاع غزة بشكل كلي لا مرحلي، هو الغاية التي ترنو إليها عيوننا كصحفيين وصحفيات، فقد كانت أمنية مُلحة طيلة ما يزيد على عامين من القصف المتواصل الذي لم يترك حجراً على حجر أو روحاً سالمة؛ لكن عندما جاء الإعلان المنتظر لم يكن وقع الخبر على نفسي وعلى زميلاتي وزملائي كوقع البشرى المرجوة، بل كصدمة جديدة اختلط فيها الأمل الباهت بمرارة الفقد التي لا تنتهي، ما جعل اللحظة الأولى للهدنة مشحونة بصمت مُدَوٍ يُنبئ بعمق الخراب الذي أصاب الأرواح قبل الأجساد، وهو صمت سرعان ما تحول إلى فيض من الدموع لم أستطع كبته.
في اللحظة التي سبقت إعلان الهدنة، كنتُ متأهبة لاستقبال الفرح الذي لم أعرفه منذ عامين، لكن ما شعرت به كان صمتًا ثقيلاً كللني، وصدمة ألجمت كل حواسّي وشلت قدرتي على التعبير، فبدأت دموعي تنهمر رغماً عني، حتى علا صوت بكائي الذي انطلق كأنه يغسل روحي من غبار عامين من الحرب والدمار المتراكم؛ وفي تلك اللحظة الحرجة، نظرت من فتحات خيمتي، فرأيت زوجي يحدق في محيطه بتيه، يسمع بكائي ويعي تماماً ما يدور في خلدي، فاختزل كل وجعنا ووجع أولادنا في جملة واحدة عميقة، محاولاً التخفيف: “اعتبروا ما كان رحلة، انتهت”، لكنه استدرك بمرارة: وهذه المرة كانت “رحلة عذاب وقهر وحرمان وقتل لكل شيء جميل بنا”، ولم تكن كتلك الرحلة المبهجة التي خططنا لها سوية عشية السابع من أكتوبر؛ ورغم ذلك، أصر زوجي على أن “رحلة عذابنا انتهت”؛ دافعًا إيانا نحو فكرة أننا “سنعود من حطام أجسادنا وهلاك أرواحنا لنبني كل ما هدمته الحرب من طموح لنا”، حتى لو كان هذا البناء الجديد من “قماش خيمة بالٍ”، متشبثاً بأمل عودة أولادنا إلى حياتهم وعملهم الذي قضت عليه النيران، وهو تفاؤل مرير دفعني للتأمل في حالي وحال هذه الروح المنكسرة والمجهدة من الأرق.
وقفت أمام المرآة بعد كل هذا العناء، وتجرأت هذه المرة على التحديق في وجهي مليًا، فلم أجد سوى دموع تنهمر بغزارة وكأنها تغسل آثار عامين من الغبار والدمار، وشحوب وسواد تحت العينين، كأنهما يشهدان على عذاب روحي ودماري الشخصي، عذاب الأرق والبحث المستميت عن النوم طوال عامين من الليل المضطرب بسبب أصوات القصف التي لا تهدأ؛ توالت التساؤلات على نفسي بمرارة وقلق ينهش الروح: “هل سينقضي هذا كله؟ هل ستعود آدميتي المفقودة؟ هل سأعيش دون خوف وأنام بسلام وأجد قوت يومي وخصوصية حياتي؟”؛ صرت أتحاشى النظر إلى خيمتي، أحاول أن أتناسى أنها قد تكون واقعي الدائم ومستقبلي المحتوم، لكنني رددتُ بأمل أخير يلوح في الأفق: “المهم أن يقف شلال الدم ويتوقف قتل الأبرياء، ويتوقف خوفي من أن أكون الهدف التالي أو أن يصاب أحد أحبابي”، مؤكدة لنفسي أن كل ما عدا ذلك، “يصبح يسيرًا” يمكن تحمله، وهذا ما دفعني لأخذ أول خطوة باتجاه بيتنا المدمر.
كانت أولى خطواتي فور سماع وقف إطلاق النار هي الهرولة إلى بيتنا، ذهبت مسرعة لعلي أجد شيئًا سليماً بقي من ماضينا وذكرياتنا، لكنني وجدت كل شيء حطامًا وخرابًا، فلم يتبق منه إلا الأنقاض التي تروي قصة الفقد والدمار؛ استعوضت الله خيرًا، وحاولت البحث عن أي قطعة من ملابسي، لكن لم يبق شيء، ولم أحتمل البقاء متقوقعة في خيمتي بعد تلك الصدمة المروعة، فتوجهت مسرعة إلى نقطة عملنا الصحفيات بمستشفى ناصر في خانيونس، أردت تغيير مشاعر الصدمة بالانخراط في العمل، لكن ما إن وصلت، لم يكن المشهد كما توقعت أن أرى الفرح في عيون زميلاتي، بل كان السكون الحزين يكلل المكان، وكأن الهدنة ليست سوى استراحة قصيرة في حداد جماعي، تماماً كالحالة التي رأيت عليها زميلتي فاطمة الدعمة.
كانت زميلتي فاطمة الدعمة تجلس متكومة في زاوية من الشقة، تقلب الصور في هاتفها النقال بصمت مطبق، فقد أثقلها الفقد والنزوح، ورغم أنني هنأتها بسلامتها، إلا أن سؤالي الأول لها كشف عن عمق جرحها: “ما الذي ستفعلينه أول شيء فور توقف إطلاق النار؟”، فأجابتني فاطمة بحرقة: “سأزور قبر أمي. حرمني الاحتلال منها، وقطعني بالنزوح عن غزة، فحرمني ذلك من احتضان قبرها. أتلهف لزيارتها والحديث معها عن ألمي بفقدانها”، وهي التي فقدت أمها واثنين من إخوتها وبعض أقاربها؛ ورغم حزنها العميق، تحمست فاطمة قليلاً بحديثها قائلة: “سأطمئن على بيتي وبيت عائلتي، أتمنى أن تكون بيوتنا بخير”، لكن الصدمة كانت كبيرة حين ذهبت ووجدت بيوت عائلتها قد نُسفت بالكامل، ومع ذلك، احتضنت قبر والدتها وكأنها احتضنتها جسدًا وروحًا، بينما ظلت زميلتنا هلا عصفور أسيرة لزاوية أخرى من الفقد الذي لا يُحتضن.
في زاوية سكون أخرى، يقابلها مصحفها كشاهد على الصبر، كانت تجلس الصحفية هلا عصفور، عروس الشهيد الصحفي محمد سلامة، تنتظر عودته بفارغ الصبر ليبشرها بانتهاء الحرب ويتحضرا لمراسم عرسهما الذي أرجأته الحرب؛ لكن محمد لم يأتِ، وبقيت هلا في زاويتها، تضع صورتهما معًا، وهما يمسكان الخوذة وينظران لبعضهما نظرة أمل بالقادم، صورة قديمة تبقت، دون أمل أن يمسكا أيديهما مرة أخرى، بل أن تغرس يدها وحدها في التراب الذي يغطي جسد محمد؛ هلا كتبت على صفحتها جملة واحدة مُتألمة: “كان أول العابرين محمد…”، ولم تخرج هلا من المكان لرصد استقبال الناس للهدنة، فـ”كل الوجوه غريبة دون كاميرا محمد”، و”كل الحضور لا تراه دون ابتسامة محمد”، وبقيت هلا تنظر في الجهة المقابلة لها، حيث مستشفى ناصر، في المكان الذي غادرها به حبيبها للمرة الأخيرة، وكان هذا الفقد الصامت هو الشعور المشترك الذي انعكس على زميلاتنا الصحفيات الأخريات.
انعكس هذا الحال المؤلم على زميلاتي الأخريات بشكل واضح، فخرجنا من نقطة عملنا لتصوير فرحة الناس، ووقفنا أنا وزميلتي الصحفية يافا أبو عكر ووعد أبو زاهر وأخريات، لكننا عدنا بصمت يكتم أنفاسنا، ورددنا سويًا بمرارة: “المكان موحش، والفرح غائب دون وجود زميلتنا الصحفية مريم أبو دقة، التي كانت تنتظر هذه اللحظة، لكنها غابت وبقيت حسرة غيابها في قلوبنا”؛ كانت صورة مريم أبو دقة وبقية زملائنا الشهداء تطل من نافذة خيمة مقابلة لمكان وقوفنا في تجمع الناس المبتهجين بوقف إطلاق النار، وكأنها تشهد أنهم كانوا جزءًا من المنتظرين، لكن الحرب قضت على حلمهم في مواصلة حياتهم؛ رددت زميلتي يافا أبو عكر بتساؤل مرير عن مهمتنا: “ماذا سنكتب؟ لا أعرف كيف أعبر”، وقلنا بصوت واحد مخنوق: “الدموع تخنقنا، بداخلنا قهر وفقد يغيب الفرحة، وهذا شعور كل الناس”، ولذلك اقترحنا أن يكون استقبال خبر وقف إطلاق النار من نفس مكان اغتيال الصحفية مريم أبو دقة والشهيد محمد سلامة وبقية الزملاء، لكننا استدركنا حديثنا بحذر: “لن نسلم من الاحتلال حتى بآخر لحظة، فليس له أمان”، وصممنا على ترتيب زيارة لقبر زميلتنا الشهيدة مريم أبو دقة، ومرافقة زميلتنا الصحفية هلا عصفور في زيارة معها لقبر رفيق دربها زوجها محمد سلامة، وهذا التصميم على إحياء الذكرى يعكس صموداً مريراً يوازيه استغراب عميق عبّر عنه الكاتب ناصر رباح.
لفتتني تساؤلات الكاتب ناصر رباح الذي تساءل بحرقة بعد عامين من الحرب، مُعرباً عن ذهوله ودهشته من هذا الصمود الأسطوري: “كيف عاشوا بلا كهرباء! كيف تحملوا مرور الدبابات على أجسادهم، وقصف الطائرات وتصدع الأبنية فوق رؤوسهم! كيف عبروا الحرب والعطش والجوع والموت! كيف تحملوا النزوح والبقاء في الخيام شتاءً وصيفًا! كيف طبخوا كل شيء على الحطب، بل وصنعوا للأطفال الحلوى والمعجنات ليتعلموا بيعها لا ليأكلوها! كيف أمضوا عامًا بحذاء واحد وثوب واحد! كيف مشوا في شوارع ترابها عُجن بمياه المجاري ولم يشمئزوا! كيف ركبوا على عربات الحمير ولم يتذمروا! كيف خلط السائقون السولار بالزيت لتوفير الوقود! كيف عادوا لبيوتهم المهدمة وطوقوها بالنايلون وعاشوا فيها! كيف دفنوا أطفالاً وأنجبوا أطفالاً وأكملوا حيواتهم! كيف لم ينهزموا! كيف لم ينكسروا! ثم كيف حمدوا الله على الكارثة!”؛ حقًا، “لقد نجونا من الموت، لكن الخراب لم يترك أرواحنا سالمة”، وهو الخراب الذي تجسد في الاتصالات التي انهالت علينا، حيث أخبرنا أقاربنا أنهم فتحوا بيوت العزاء لأولادهم الشهداء، فواسينا بعضنا البعض، واستمعنا لقصص وجع تتكرر، كقصة الصحفية غادة الددا.
أخبرتني الصحفية غادة الددا أنها تشعر “شعور يتيمة استكثروا عليها الكعكة بيدها”، وأنها حُرمت من الفرحة التي لم تكتمل، لأن بيتها نُسف مؤخرًا، فغادة التي كانت تسكن في عبسان الكبيرة، تشعر بحزن كبير لأنها ستظل نازحة في مقبرة النمساوي بخانيونس، فلم تذق طعم الفرح بإعلان الهدنة، وكذلك حين سألتُ زميلتنا ولاء أبو جامع عن شعورها، قالت إنه “وجع” مضاعف، لأنها فقدت بيتها وبعض زميلاتها الصحفيات، والأصعب أنها لن تستطيع العودة إلى منطقتها “الشرقية” التي صُنفت “منطقة خطر”، فتجدد حزنها القديم؛ فقد شعرت بالأسى في الهدنة الأولى حين عادت هي إلى الشرقية ولم يعد النازحون إلى غزة، لكن اليوم، ورغم عودة البعض، هي ما زالت لم تعد إلى الشرقية، ليظل القلق والخوف من التفاصيل غير المضمونة مسيطراً على الجميع.
حالها كحال الصحفي محمد الجمل الذي عبّر عن وجعه فور الإعلان؛ فمحمد الذي يسكن في مدينة رفح، يشعر بالحزن لأنه لن يعود إلى بيته، وينتابه القلق من عودة الحرب مرة أخرى، كما حدث في الهدنة الأولى، متسائلاً بمرارة: “من يضمن الاستمرار؟”، وهو شعور يُغذيه الخوف من تفاصيل الاتفاق وعدم التفاؤل، لأن الاحتلال لم ينسحب من كل المناطق، وهناك “عقبات كبيرة يتلاعب بها ، ولذلك كان يتمنى أن يكون اتفاق أفضل، يقضي بعودتنا جميعًا وانسحاب جيش الاحتلال بشكل كامل، لتكتمل الفرحة التي لم تكتمل بعد.
هكذا بين حطام البيوت وبقايا الأرواح، استقبل الصحفيون في غزة هدنة لم تجلب معها الفرح الكامل، بل غصّة الفقد وخيبة أمل من اتفاق لم يضمن عودة شاملة أو انسحاباً كاملاً.
لقد نجونا من الموت الجسدي، لكن الخراب لم يترك أرواحنا سالمة ليظل السؤال معلقاً في سماء القطاع المكلوم: هل ستعود آدميتنا المفقودة، وهل سنعيش يوماً لا ينهشه الخوف ولا يشوهه النزوح؟
كاتبة فلسطينية/ غزة
نقلا عن رأي اليوم











