في خطوة وُصفت بأنها تحول في الموقف الدولي من قضية الصحراء الغربية، صادق مجلس الأمن الدولي في 31 أكتوبر 2025 على قرار جديد جدد فيه ولاية بعثة الأمم المتحدة (المينورسو)، مع إشارة واضحة إلى مبادرة الحكم الذاتي التي طرحها المغرب عام 2007 باعتبارها «الحل الأكثر واقعية وقابلية للتطبيق».
القرار، الذي حظي بتأييد 11 دولة مقابل امتناع أربع، أعاد إلى الواجهة سؤالاً قديماً ظلّ يرافق النزاع منذ اندلاعه منتصف السبعينيات:
(هل يمكن للحكم الذاتي أن يكون تجسيداً لحق تقرير المصير؟ أم أنه تجاوزٌ لهذا الحق باسم الواقعية السياسية)؟
الحكم الذاتي في العالم: بين التعدد والجدوى
في التجارب المقارنة، يمثل الحكم الذاتي صيغة مرنة لإدارة التنوع داخل الدولة الواحدة. فهو يمنح الأقاليم سلطات تشريعية وتنفيذية واسعة في مجالات التعليم والشرطة المحلية والثقافة، دون المساس بالسيادة المركزية.
في إسبانيا، يتمتع إقليم كاتالونيا والباسك بصلاحيات واسعة، مكّنت من احتواء النزعات الانفصالية مع الحفاظ على وحدة الدولة.
في إيطاليا، مُنحت صقلية وسردينيا نظاماً خاصاً لتدارك الفوارق الاقتصادية والجغرافية.
في العراق، شكّل إقليم كردستان نموذجاً عربياً متقدماً للحكم الذاتي، إذ يدير برلماناً محلياً وقوات أمن خاصة ضمن دولة اتحادية.
في الصين، تتعدد الأقاليم ذات الحكم الذاتي القومي كالتبت وشينجيانغ، لكن محدودية الصلاحيات تجعل التجربة أقرب إلى إدارة إدارية موسعة منها إلى تقرير مصير فعلي.
أما في الدنمارك وفنلندا، فقد نجحت صيغ الحكم الذاتي في غرينلاند وجزر آلاند في خلق توازن حقيقي بين الخصوصية المحلية ووحدة الدولة الأم.
وتُظهر هذه النماذج أن الحكم الذاتي يمكن أن يحقق الاستقرار حين يأتي نتيجة تفاوض حرّ واتفاق متكافئ، لا حين يُفرض كبديل مسبق عن خيارات أخرى.
الصحراء الغربية: الحكم الذاتي أم تقرير المصير؟
في الحالة الصحراوية، يختلف السياق جذرياً. فالإقليم ما زال مُدرجاً على لائحة الأمم المتحدة للأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي، ما يعني أن مسألة تصفية الاستعمار لم تُستكمل بعد.
ورغم أن القرار الأممي الأخير لم يتخلّ رسمياً عن مبدأ تقرير المصير، إلا أنه أعاد ترتيب أولويات الحل عبر ترجيح مقترح الحكم الذاتي المغربي، متجاهلاً عملياً خيار الاستفتاء الذي ظلّ أساس خطة التسوية منذ التسعينيات.
هنا تبرز الإشكالية الجوهرية التي تحتاج إلى نقاش صريح:
> هل يمكن للحكم الذاتي تحت السيادة المغربية أن يُعبّر عن إرادة الشعب الصحراوي بحرية؟
جبهة البوليساريو، التي تمثل الطرف الصحراوي المعترف به دولياً في المفاوضات، ترى أن أي حل لا يتضمن استفتاءً يمنح الشعب حق اختيار مستقبله السياسي بين الاستقلال أو الاتحاد أو الحكم الذاتي، لا يمكن اعتباره ممارسة حقيقية لتقرير المصير.
بينما تعتبر الرباط أن مبادرتها تمثل حلاً عملياً يحفظ وحدة الأراضي ويضمن التنمية والاستقرار في المنطقة.
الواقعية السياسية أم العدالة التاريخية؟
لغة القرار الأممي تميل إلى ما تسميه “الواقعية السياسية”، وهو ما يثير جدلاً حول حدود هذه الواقعية حين تتقاطع مع مبادئ القانون الدولي.
فالحق في تقرير المصير – كما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة وقرارات الجمعية العامة – هو حقٌ غير قابل للتصرف، ولا يجوز تقييده بخيارات معدّة سلفاً أو محكومة بإرادة طرف واحد.
من هنا، تتجدد الإشكالية التي رافقت معظم تطبيقات الحكم الذاتي في العالم:
> هل يُمثل الحكم الذاتي مرحلةً انتقالية نحو تقرير المصير، أم بديلاً دائماً عنه؟
في التجارب الأوروبية، كان الحكم الذاتي خياراً متفاوضاً عليه داخل دول قائمة ومعترف بها.
أما في الصحراء الغربية، فهو يُطرح ضمن نزاع لم يُحسم فيه بعد من يملك السيادة القانونية على الإقليم.
نحو مقاربة جديدة: حلّ المشكلة لا إدارة الأزمة
ما يحتاجه هذا الملف اليوم ليس مزيداً من إدارة الأزمة، بل إرادة سياسية حقيقية لإيجاد حلّ عادل ودائم يعبّر عن إرادة الشعب الصحراوي بحرية.
ذلك يمكن تحقيقه عبر استئناف المفاوضات وفق جدول زمني واضح، وبرعاية أممية فعّالة، تتيح استفتاءً نزيهاً أو آلية ديمقراطية شفافة تضمن المشاركة الحرة للسكان في تقرير مستقبلهم.
كما ينبغي أن تُربط أي ترتيبات مستقبلية بضمانات حقوق الإنسان، والعدالة في استغلال الموارد الطبيعية، وتثبيت التنمية المحلية كحق لا كمنّة.
أخيرا
بين الواقعية السياسية التي يتحدث عنها مجلس الأمن، ومبدأ العدالة التاريخية الذي ينادي به أنصار تقرير المصير، تبقى قضية الصحراء الغربية أسيرة تناقض جوهري لم يُحسم بعد.
فالحكم الذاتي قد يكون خطوة نحو الحل إذا كان ثمرة اختيارٍ حرّ، لكنه يصبح جزءاً من المشكلة إذا فُرض بديلاً عن الحرية.
ولكي تكون فكرة الحكم الذاتي ناجحة وفعالة وتأتي بنتيجة مقنعة قابلة للتطبيق فإنه لابد من :
أولا تفعيل دور الشعب نفسه في هذا التفكير الجديد لأنه لازال مقيدا بأطروحات من الماصي، من خلال استطلاعات رأي حوارات مفتوحة أيام تفكيرية تشرف عليها و تأطرها الهيئات دولية تعم كل الشعب الصحراوي وتأخذ الوقت والمال الكافيين لإنجاحها، الهدف منها ارجاع الشعب (المواطن ) الى الإحساس الواقعي الى التحدي الى الحقيقة الى تحمل مسؤولية القرار، موضوعات النقاش ستكون حول الحكم الذاتي انواعه الصلاحيات التي يمنحها حدود السيادة تقسيم الثروة الحقوق و الحريات التي سيتمتع بها المواطن الصحراوي و علاقته بالدولة ذات السيادة ...الخ
ثانيا فتح حوار بين الأطراف المعنية بالنزاع التي اقرتها الأمم المتحدة (المغرب، الجزائر، موريتاينا، البوليساريو ) الهدف من الحوار إيجاد حلول مرضية مقنعة لكل الإشكالات التي اثارها النزاع ونمت معه حتى أصبحت جزءا من ميكانيزماته، موضوعات النقاش: الحدود و الامتيازات و التبادل التجاري و الاعفاء الجمركي وما على شاكلتها من إشكاليات.
ثالثا المؤتمر الدولي حول قضية الصحراء: هذا المؤتمر يكون ختام لكل هذه الجهود تشرف عليه الامم المتحدة وترعاه القوى الدولية الكبرى يؤسس لقرارات من الأمم المتحدة تضع حدا للنزاع الصحراوي يكون منبثقا من القاعدة الشعبية و مرضيا لأطراف النزاع و مضمونا من المجتمع الدولي. يحس الشعب الصحراوي من خلاله أنه عبر بكل حرية عن رأيه.
إنّ مستقبل المنطقة واستقرارها لا يمكن أن يُبنى على صيغٍ مؤقتة أو حلولٍ فوقية، بل على إرادة الشعوب وحقها في الاختيار بحرية ومسؤولية ضمن معالجة شاملة لكل الإشكاليات التي نمت على الصراع وشكلت عضلاته.
فذلك وحده ما يمنح أي حلّ شرعيته، ويحوّل “الواقعية” من أداة ضغط سياسي إلى جسرٍ نحو العدالة والسلام الدائم.
د. سليمان الشيخ حمدي
خبير بشؤون الساحل والصحراء











