في فرنسا: البرمجية لا تعمل!

 بيير لوي ريمون

الكلمة معروفة، يسميها المتخصصون في علم المصطلحات بالنحت اللفظي، «إبداع» يولد من رحِمه مصطلحٌ جديد ينطبق على واقع غير مسبوق عادة ما يفرضه التطور العلمي. وهكذا ظهرت «البرمجية» ترجمة لكلمة software. لكن، كما هو معروف، سرعان ما انتقلت الكلمة إلى مجالات أخرى متنوعة من فروع المعرفة ليُستدل بها على مخطط محكوم التصميم، قويم البنيان.
على الأقل، هكذا كان المفروض. لكن ثمة نقطة رئيسية أخرى تبرز في المشهد عندما نباشر إلى التعامل بالبرمجيات – وهي نقطة نغفلها في الأغلبية الساحقة من الأوقات، آلا وهي العنصر البشري.
وصل ماكرون إلى سدة الحكم وهو يحمل «برمجية» سياسية متكاملة أراد بها تكريس ما نجحت فيه ألمانيا منذ وقت طويل عبر إنشاء حكومات وفاق وتحالفات، أي بعبارة أخرى، تكريس «وسطية» تعد تطبيقاً حرفياً لفلسفة أحزاب الوسط القائمة على تأسيس «أغلبيات مشاريع» تضم الأحزاب التقليدية لتستوعبها تحت سقف براغماتي.
لم يكن مثيرا للاستغراب أن تكون هذه الخطة محفوفة بعقبات، وفي مقدمتها كون الرأي العام الفرنسي ليس مستعدا لتقبل ما نجدِه في مناهج العلوم السياسية التي تتحدث عن «أغلبيات مشاريع» تلك.
الناخب الفرنسي في حاجة إلى التمييز بين اتجاهات إيديولوجية يتم تبنيها. فقد أثبت الواقع أنه لا يستسيغ فكرة «لا يمين لا يسار « وإن ظلت هذه الفكرة مُغرية لعقود كما نظّر لها دعاة أحزاب الوسط أمثال فرنسوا بايرو، إلا أن الاعتقاد يسود الآن بأن «تجربة الوسط « تجربة فاشلة. كثيرون يعتبرون أنفسهم عاجزين عن التعريف بما يمكن أن تمثله سياسة «وسطية»، وفي محل ذلك تَعَمّمَ الانطباع بأن ماكرون أراد أن يستنسخ النظام الليبرالي الأمريكي في آليات السياسية الفرنسية. تغلّب هذا الاعتبار على كل الاعتبارات الأخرى بما لم يترك مقبولية لتنظير سياسي مبتكر يمكن أن يَصدرَ عن «الماكرونية» كما يقال هنا.

ثمّة مثال لم نعد نورده كثيرا عزّز هذا الانطباع وهو اعتماد الحكومة الفرنسية خلال فترة كوفيد 19 على خدمات شركة «ماك إندسي» للاستشارات الادارية، وهي واحدة من أكبر الشركات العالمية الخاصة الأمريكية في هذا المجال، وقد مثّل الأمرُ سابقة عززت فقدان ثقة العديدين في قدرة فرنسا على استقلالية التصرف في حال وقوع أحداث غير متوقعة. فكثيرون رأوا في مثل هذه التبعية فشلا وحجرَ عثرة أمام تناول كبريات ملفات السياسة الداخلية، خاصة عند الذهاب إلى قرارات اقتصادية انجرّت عن سياق الوباء وتجسدت في إغداقات مالية فاقت كل التوقعات تم تقديمها للشركات الكبرى دون أن يُحسب لإكراهات العودة إلى الوضع الطبيعي بعد الكوفيد، أي حساب.
البرمجية لم تعمل. كثيرون اعتبروا أن ماكرون نسخ عليهم واقعا غريبا عن أكثر شريحتي فرنسا تمثيلا للبلد: الطبقة المتوسطة من جهة والطبقة الوسطى من جهة أخرى. كثيرون يعتبرون أنه نُسِخَ عليهم واقعٌ مبني أساسا على التنافسية الاقتصادية المحفِزة لأرباب الشركات الكبرى، لا المتوسطة ولا الصغرى حتى. ولم يستبعدوا أن التكرار من الإعفاءات الضريبية هو أصلا ما عزّز الدَين العام.
الدَينُ العام، هو أكبر عامل استقطاب في الوطن حاليا، ليس لمجرد المساحة التي تركها أمام حملات «التلويم «على المسؤولين المحتملين، بل لأن كثيراً من الفرنسيين، سواء منهم الضالعون في الاقتصاد أو غير الضالعين أبدا، شعروا بالظلم لدى مطالبتهم بتقديم «تضحيات».
لقد عُدنا فعلا إلى المواجهات الاستقطابية بين «الأغنياء» و«الفقراء»، بين المرفّهين والمُعوزين، بين المدعومين والمظلومين.
استقطابات أراد الرئيس الفرنسي أن يتجنبها بكل ما أوتيت تشكيلتُه من قوة سنة 2017، لكن أكبرَ خطأ كان التمسك العدمي بفرض البرمجية مهما كلّف الثمن، بكل ما غلبها من ضعف.

نقلا عن القدس العربي

ثلاثاء, 14/10/2025 - 12:18