السفينة وربابنتها

ابتهال الخطيب

الاختلاف رحمة، والتعبير عن الاختلاف رحمة. معارضة أبنائك لك في بيتك رحمة، معارضة طلبتك في صفك الدراسي رحمة، معارضك مرؤوسيك في عملك رحمة، معارضة شعبك لحكومتك رحمة. الاختلاف في الرأي بكل صوره المختلفة ما هو سوى دافع ومتنفس، ما هو سوى وسيلة للتعايش وإدارة الخلافات والدفع بالوضع الإنساني إلى الأمام. المعارضة، بكل صورها وأساليبها، حتى السلبي المزعج بل والخطر منها، إنما هي أداة تعلّم ووسيلة للحد من الطغيان والشر ومتنفس للإنسان الذي يحتل الموقف الأضعف في المعادلة.
حين تسري كل الأمور على هواك، تختال نفسك وتضعف قدرتك على تقييم أدائك وتتجبر روحك اعتقاداً أنك تقف في حيز الحق المطلق. حين تواتيك الظروف دائماً، سواء بحظك الطيب أو بأموالك أو بتخويفك للآخرين، تتغبش الصورة الحقيقية أمام عينيك، فترى الدنيا من أعلى لتعتقد أنك تمسكها وتحركها بخيوط لا تبلى، وترى نفسك من أعلى لتعتقد أنك فوق الآخرين وأنك تستحق أن تتملكهم وتصعد فوقهم. حين تواتيك الظروف دائماً وتذهب الدنيا على هواك وتستسلم أنت لهذه المتعة الأنانية، ستنقطع صلتك بمن هم أضعف منك وستتوه عن الحقيقة، وفي الغالب ستخسر كثيراً أو قليلاً، ولكنك ستخسر في النهاية بلا شك.
المعارضة مهمة، هي صوت الضمير المرتفع، هي الحكاية من زاوية أخرى لا تستطيع أن تراها أو تحيا فيها، هي المسطرة التي تخطط لك طريقك وتبقيك حقيقياً وواقعياً ودائم التقييم لذاتك وحياتك. لكننا في جزء من العالم لا يفهم معنى وقيمة الصوت المختلف، فنحن قوم عشائريون أبويون، نعتقد بالهرمية في كل منحى من مناحي حياتنا: الأب والأم أعلى من الأبناء، الزوج أعلى من الزوجة، الرجل أعلى من المرأة، المسؤول أعلى من الشعب، الغني أعلى من الفقير، المواطن أعلى من المقيم، العربي أعلى من الأعجمي ولو تغلب الأخير عليه بالتقوى، الأصيل (والذي لا يوجد بعد مفهوم علمي واضح لهويته) أعلى من «البيسري» (الذي يفترض أنه شخص غير أصيل الدم والمنبت)، الرئيس أعلى من المرؤوس، وهكذا إلى أن أصبحت حيواتنا عبارة عن سلسلة هرمية قبيحة هلامية لا مكان لها واقعياً سوى في خيالاتنا العنصرية.
على سبيل المثال، معلمك في المدرسة ليس والدك، هو موظف مهمته إيصال العلوم لك، وفي حين أن احترامه مستوجب كما هو مستوجب في كل تعاملاتك مع البشر كافة، فإن معارضته ومناقشه ومحاورته بل والاختلاف معه، كلها من مستلزمات وظيفته ومن أصول ممارستها. هذه المعادلة تنطبق على العلاقات كافة: في العلاقة مع الوالدين، مع رؤساء العمل، مع مسؤولي الدولة، تلك كلها علاقات لا يمكن التغاضي عن فرق القوى فيها، عن حقيقة أن هناك تفاوتاً في السلطة، وبالتالي نسبة من الخوف والكتمان يسيطران عليها. وعليه، لا بد لمن هو في الموقف الأقوى أن يلحظ كل ذلك، وأن يفتح الباب للحرية، ولا بد لمن هو في الموقف الأضعف أن يلحظ كل ذلك ويفتح الباب لشجاعة المطالبة بالحق والمساواة، ودون فتح كل هذه الأبواب، ستبقى العلاقة حبيسة الخوف، وستبقى الحياة المحيطة بها خانقة متجمدة في مكانها.
بالطبع، العلاقة بالأبوين تختلف بعض الشيء، فهناك رابط بيولوجي خاص يجعل الحقوق والواجبات مختلفة، عاطفية، ومعقدة كثيراً، إلا أن اعتقاد الآباء والأمهات باستحقاق الطاعة والولاء لمجرد أنهم قاموا بالعملية البيولوجية الإنجابية هو اعتقاد خاطئ يقضي على طيب وجمال العلاقة التي يجب أن تكون. الآباء والأمهات يحتاجون لأن يبذلوا مجهوداً في أدوارهم ليستحقوا الحقوق العظيمة المناطة بدورهم العظيم. لكن هذه المعادلة، هذا الشعور الأبوي بواجب الطاعة، لا يمكن تطبيقها على بقية العلاقات، وهنا تحديداً مكمن المشكلة.
في عالمنا العربي، ننظر لرئيس العمل على أنه والد، للمدرس على أنه والد، للمسؤول عموماً على أنه والد، نتحدث عن ضرورة طاعة ولي الأمر واحترامه بسبب سنه ومقامه، مستسلمين تماماً لهذا المفهوم الأبوي العشائري الذي ينسينا حقيقة أن رئيس العمل موظف، والمسؤول مهما علا مقامه موظف كذلك، وأنهما حقيقة ليسا آباء لأحد، إنما هم موظفون لهم حقوق وعليهم واجبات، وأن لا مكانتهم ولا سنهم ولا أموالهم ولا سلطتهم يفترض أن تعفيهم من النقد أو ترفع عنهم المعارضة. بل لربما أدعي أنه كلما زاد المال والسلطة والعمر، كانت الحاجة أشد للمعارضة والنقد والرفض والإصرار على التغيير والتجديد والتحديث.
المعارضة في عالمنا العربي المسكين تعاني؛ فالأبناء لا يجب أن يعارضوا الآباء، والمرؤوسون لا يجب أن يعارضوا رئيسهم، والشعب لا يجب ولا يستطيع أن يعارض المسؤول، وهكذا غبنا تماماً في نغمة الصوت الواحد الطنانة المؤذية، وما عدنا نرى كيف تتعدد الرؤى والآراء وزوايا الحياة، وتثبتت لدينا فكرة أن الحق واحد والحقيقة واحدة والمسار واحد والفكرة واحدة، وأن سفينة حياتنا المترنحة أصلاً سيغرقها الربانيون، غير مستوعبين أن ربانها الأوحد -برأيه الذي لا يجادله فيه أحد- هو من قد يغرقها ونحن معها.
ولنسأل أنفسنا نحن بحد ذاتنا كأشخاص عاديين غير ذوي سلطة أو قوى: هل نتقبل الرأي الآخر أو نعطيه فرصة؟ هل نتقبل فكرة تساوي الأديان، فكرة أننا قد نكون على خطأ في التفسيرات والمفاهيم الدينية والاجتماعية، فكرة أن التوجه الجنسي والجندري قد يكون على غير ما اعتقدنا على مدى آلاف السنوات، فكرة أننا قد نكون نشأنا على الأرض بطريقة علمية مختلفة وأن عمرنا البشري مختلف تماماً عن كل تصوراتنا؟ هل سنعطي مثل هذه الأفكار وغيرها فرصة أم سنقمعها في داخلنا بخوفنا وسنقمع الآخرين من مجرد التفكير فيها، دع عنك التعبير عنها، بتسلطنا الاجتماعي وبسلطة العادات والتقاليد والحلال والحرام؟
المعارضة مهمة، حتى المؤذي الخطر منها. الرأي الآخر حيوي، حتى المتطرف الغريب المختلف تماماً منه. حرية الرأي حيوية للشعوب وسلامتها وحسن مسارها، ولو كانت ممكنة في عالمنا العربي، لساهمت هذه الحرية حقيقة في إنقاذ فلسطين، وهذا سيكون موضوع المقال القادم.

نقلاعن القدس العربي

جمعة, 15/08/2025 - 13:16