في 23 من مايو / أيار الماضي، عُرضت في مهرجان كان نسخة مُرمّمة من فيلم "وقائع سنوات الجمر" الذي يرى النقاد أنه بمثابة ذاكرة جماعية للشعب الجزائري بأكملها التي يجسدها المسار الحافل للمخرج محمد لخضر حمينة.
هذه التحفة الفنية كما يصفها النقاد السينمائيون حققت إنجازا غير مسبوق حين تفوقت على أعمال لعمالقة السينما مثل مارتن سكورسيزي، وفيرنر هرتزوغ، شوجي ديراياما، وغيرهم من رواد الفن السابع، خلال الدورة الثامنة والعشرين لمهرجان كان السينمائي عام 1975.
الملحمة التاريخية التي تسلط الضوء على كفاح الجزائريين من أجل نيل الاستقلال، عادت إلى قاعات العرض في فرنسا منذ الأربعاء 6 أغسطس آب، وللمرة الأولى بنسخة مرممة احتفاء بمرور خمسين عاما على إنجازها. يقول مالك لخضر حمينة، نجل المخرج، في حديثه لفرانس24 "عند صدوره عُرض في قاعتين فقط بباريس، واليوم يُعرض في أربع قاعات بالعاصمة وفي 24 قاعة عبر البلاد".
الفيلم الروائي الطويل الممتد على ثلاث ساعات ترك بصمة خالدة، إذ لا يزال حتى يومنا هذا الفيلمَ الأفريقي والعربي الوحيد الذي نال سعفة كان الذهبية.
وبمفارقة مؤلمة، رحل المخرج في 23 مايو أيار 2025، وهو على أعتاب الاحتفال بالذكرى الخمسين لفوزه بسعفة كان.
يقول ابن المخرج الراحل "نال والدي السعفة الذهبية عام 1975، وأُعيد عرض الفيلم بعد 50 عاما في كان كلاسيك. لكن المفارقة المؤثرة أن والدي توفي في اليوم نفسه الذي أُعيد فيه عرض الفيلم، وكأنه غادر الحياة بالطريقة نفسها التي عاش بها: كأيقونة، ورجل استثنائي، وشخصية تستحق أن تُعرف".
لعرض هذا المحتوى من اليوتيوب من الضروري السماح بجمع نسب المشاهدة وإعلانات اليوتيوب.
الترميم... من تقنية بانافيزيون إلى 4K
تم تضوير الفيلم في عام 1975 باستخدام تقنية بانافيجن- بانافيزيون 70 ملم. وبعد مرور 50 عاما، جرى ترميمه ليعرض ضمن برنامج "كان كلاسيك" سنة 2023، بفضل مؤسسة مارتن سكورسيزي السينمائية، وبالتعاون مع جورج لوكاس وعدد من المخرجين الذين يعملون على حفظ التراث السينمائي العالمي، بما في ذلك الأفلام الأفريقية، وبتوصية من مهرجان فيسباكو وجمعية المخرجين الأفارقة.
يشرح مالك لخضر حمينة أن هذا الاهتمام جاء من سكورسيزي نفسه، الذي كان قد شاهد الفيلم سنة 1975 حين كان منافسا له في المسابقة الرسمية، وأعجب به كثيرا. ومن هنا، أوكلت مهمة الترميم إلى "السينماتيك" في بولونيا بإيطاليا، التي أنجزت عملا رائعا بين عامَي 2017 و2018، بينما كان والدي على قيد الحياة، لكنه لم يكن منشغلا كثيرا بأفلامه آنذاك.
بعد تتبع مسار ترميم النسخة الحالية المعروضة، تبين أن المؤسسة المشرفة وبعد حصولها على النسخة السلبية الأصلية "Original Negative" التي صُور بها الفيلم سنة 1975، والتي كانت الأجود، غير أنها عادة ما تحمل خدوشا، أو غبارا، ويطبعها تغير في الألوان بسبب مرور الزمن، تم إرسالها إلى "السينماتيك" في بولونيا، وهي مؤسسة متخصصة عالميا في ترميم الأفلام، حيث استُخدم ماسح ضوئي سينمائي "Film Scanner" عالي الدقة لمسح كل كادر من الفيلم، حوالي 24 صورة في الثانية، بدقة 4K (أي أكثر من 8 ملايين بكسل للصورة الواحدة). هذه الخطوة حولت الفيلم من صورة ضوئية على الشريط إلى ملف رقمي فائق الجودة.
يوضح ابن المخرج أنه "قبل عرض الفيلم الأخير في كان كلاسيك، أخبرني صديق جزائري يعمل في التوزيع بفرنسا أن هناك شركة ترغب في إعادة طرح الفيلم. فرحبتُ بالفكرة، واعتبرتها فرصة لإعادة إحياء أعمال لخضر حمينة، خاصة وأنه معروف بين عشاق السينما، لكنه ليس اسما مألوفا لدى الجمهور العريض. وبالفعل، أُعيد عرض "وقائع سنوات الجمر"، وبدأنا جولات إعلامية للترويج له. وعكس ما كان عليه الحال في 1975، حين عرض الفيلم في ثلاث قاعات فقط بباريس، فقد تغير الوضع كثيرا اليوم، وأصبح بالإمكان توزيع الأفلام الجيدة القادمة من الجنوب -سواء من المغرب، أو الجزائر، أو تونس، أو باقي دول أفريقيا- على عشرات القاعات في فرنسا."
من حرب التحرير إلى انتفاضة الأرياف
تروي التحفة الفنية الحبلى بالرسائل "وقائع سنين الجمر" من خلال ست فصول زمنية، تستهل بسرد مسار كفاح الشعب الجزائري حتى لحظة الانفجار في مواجهة الاستعمار الفرنسي وبداية حرب التحرير، ثم تصوير تداعيات مرحلة الجفاف والبؤس وهجرة الفلاحين لأراضيهم، لينتقل المخرج بعدها إلى تناول مرحلة اندلاع الحرب العالمية الثانية وآثارها على بلده، قبل أن يعود إلى انتخابات 1947 وما رافقها من أحداث وضعت المجتمع أمام مفترق طرق خيار النضال الدبلوماسي أو الكفاح المسلح، ويعرج على انتفاضة الأرياف. أما الخاتمة، فهي لحظة اندلاع الثورة الجزائرية في الأول من نوفمبر تشرين الثاني 1954، التي ستستمر حتى نيل الاستقلال عام 1962.
جسدت بطولة العمل أسماء وازنة مثل الممثل اليوناني يورغو فوياغيس، ومحمد لخضر حمينة نفسه، إلى جانب الفنانة المغربية ليلى شنّا، والفنانين الجزائريين سيد علي كويرات، ويحيى بن مبروك. غير أن القوة الحقيقية للفيلم وفقا لعدد من النقاد تجلت في الحشود الهائلة من الممثلين الثانويين "الكومبارس"، وهي سمة لافتة في تلك الحقبة. يقول نجل المخرج: "كان الناس يشعرون بأنهم جزء من المعركة".
تهديدات بالقتل
لم يكن الطريق إلى العرض الأول للفيلم ممهدا، ولكن وعرا تخللته صعوبات ومشاق، بلغت حد تلقي المخرج تهديدات بالقتل من قِبل عناصر سابقين في منظمة الجيش السري (OAS)التي عرفت بـ"اليد الحمراء"، إضافة إلى إنذارات متكررة بوجود قنابل أثناء الفعاليات المرتبطة بالعمل الفني.
لم تكن مشاركة عام 1975 هي الظهور الأول للمخرج الجزائري في كان؛ فقبل ثمانية أعوام، خطف الأنظار بفيلمه "ريح الأوراس"، الذي يحكي قصة أم تبحث عن ابنها الذي اختطفه الجيش الفرنسي خلال حرب الجزائر، وفاز حينها بجائزة العمل الأول.
مساهمة فنية في تعزيز مشاعر الوطنية
لم يدخر محمد لخضر حمينة جهدا في تقديم منتج فني غير مسبوق، إذ كان سخيا في تصوير أسلوب حياة مواطنيه ونقل كفاحهم من أجل انتزاع الحرية، بأمانة وإبداع كبيرين بحسب المهتمين بالشأن السينمائي.
من خلال "وقائع سنوات الجمر"، استطاع المخرج توثيق مسار الشعب الجزائري نحو الاستقلال، من معاناة الجفاف والفقر إلى لحظة اندلاع الثورة المسلحة.
تم تصوير العمل إبان فترة كانت حينها الجزائر في أوج حماسها الثوري والاشتراكي، ما ساهم في تعميق مشاعر الوطنية والالتزام لدى الممثلين. وكما سلف، فقد شارك فيه آلاف الممثلين الثانويين، في مشاهد جماعية هائلة الحجم بالنسبة لتقنيات وإمكانيات المنطقة في السبعينيات.
لعرض هذا المحتوى من اليوتيوب من الضروري السماح بجمع نسب المشاهدة وإعلانات اليوتيوب.
يقول المخرج الموريتاني محمد مصطفى البان لفرانس24، "بالرغم من سوداوية المشاهد وتصوير ساحات الدم الحمراء بطريقة قد يظن البعض أنها تعتمد على منهجية مباشرة في الطرح، إلا أن الفيلم الذي يرصد بأسلوب ملحمي المراحل التاريخية التي سبقت اندلاع الثورة التحريرية الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي أصبح شاهدا ومشاركا في صنع الوعي الجمعي الذي أدى إلى الثورة، كما أن المخرج الراحل محمد لخضر حمينة قد وظف لغة سينمائية غنية بالصورة والموسيقى".
جرأة سياسية وفنية
لم يكن يسيرا على مخرجي تلك الفترة اقتحام عوالم المقاومة والنضال الفني والمساهمة في صنع الوعي الجمعي من خلال طرح أعمال تنقل الوجه الحقيقي للاستعمار وتسلط الضوء على معاناة ضحاياه، فهي إذن إلى جانب كونها مغامرة فنية، تعد جرأة سياسية في زمن لم تكن هذه المواضيع تلقى ترحيبا عالميا دائما، خصوصا في المهرجانات الكبرى.
من أهم ركائز روح الإبداء التي وسمت الفيلم، قدرة مخرجه على الجمع بين شاعرية الصورة وقوة السرد التاريخي، بأسلوب يوازن بين الدراما الشخصية والمشهد السياسي الواسع.
وقد اتسمت منهجية عمل المخرج أيضا بالتقشف الفني، إذ لم يوغل في الزينة الشكلية ولا في الاستعراض الميلودرامي، ولكنه عكس انفعالا مكظوما يجسد كرامة إنسانية صلبة.
وفقا للمخرج الموريتاني فإنه "من الطبيعي أن يظل هذا النوع من التحف صالحا للعرض في كل زمان ومكان، كما أنه يصلح للاستشهاد في كل حين، وهذه إحدى المهام المنوطة بالسينما والتي تتمثل في الأرشفة والتوثيق".
حمزة حبحوب
نقلا عن فرانس 24











