لقد اصبح الجلوس أمام شاشة الأخبار اليومية قرارا يتطلب شجاعةً وقوةً خاصة ، ليس شجاعةً فقط لتحمل مشاهد الموت والالام والعذاب على الشاشة مباشرة ، بل شجاعة أخرى خاصة لتحمل رؤية وجوهٍ من المسوخ والقردة والمجرمين والخونة ، هنالك معركةٌ خفية طاحنة تجري في هذه الجلسات ، هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تقديم الجريمة على مرأى العين مقترنة بإطلالات الجناة والمجرمين مع الاقتران بالعجز الكامل عن فعل شيء حقيقي ومؤثر ، ثمة صدام هائل هنا لا يظهر منه شيء على السطح ، كيف يمكن ان يتفاعل المرء مع هذا التحدي العصبي والسيكولوجي ، وكيف تتصادم معايير الانسانية ومحدداتها الداخلية مع ما نشاهده ؟ إن ما يقترفه جيش المخربين والمجرمين في غزة شيء يتعدى تحديَ القوانين الدولية والأعراف الأممية إلى تحدي الإنسانية بفطرتها الداخلية ومسِّها بشيء من الأذى ، لا حاجة هنا لأن يكون الإنسان عربيا أو مسلما أو مسيحيا أو من أي فئة كانت حتى يشعر بهذا الاعتداء على قيمته ومكانته وصورته ، إن العالم بأكمله يعيش مع هذه الحالة مأزقا أخلاقيا ووجوديا أمام هذه العصابة التي تتجاوز قوانين الخالق على خلقه ، وتتجاوز وتعتدي على معالم التحضر والقيمة البشرية وتمثل خطرا مطلقا على كل شيء وكل مجتمعات البشرية . مع إطلالة الرئيس ترامب مساء الأمس وإعلانه فشل المفاوضات حول الهدنة في غزة ومطالبته بالقضاء على حماس يكون الرئيس وطاقمه الكذاب قد تلقى صفعةً جديدة من المقاومة الفلسطينية تضاف إلى رصيد خسائر سياساته وسقوط الهالة الكاذبة التي أحاط بها نفسه طيلة الشهور الماضية من اعتلائه سدة الرئاسة ، بهذا الإعلان تكون المقاومة الفلسطينية قد ردت على خطاب المجرم نتانياهو بأنها لن تسمح له ولغيره بأن يملي عليها شروط الاستسلام ، وتكون قد أعلنت مرة جديدة بأنها تقف جيدا على قدميها ولم تسقط أو تضعف أو تتنازل ، وخديعة المفاوضات والضغوط و(الوسطاء ) العرب لم تتمكن من الاحتيال على غزة وفشلت في إظهارها في موقف المتسول المترجي الذي يريد أية صفقة بأي ثمن . لم تعد المسألة في غزة العزة مسألة إنهاء المقاومة أو تحرير الأسرى الصهاينة والتفاوض حول كل هذا ، المسألة اليوم هي صورة شاملة لعدوان يجري على المنطقة بالتجزيء ثم بالمجمل ضمن خطة صهيونية كبيرة المعالم يتم تسويقها وإعلان وترسيخ نتائجها في الأذهان قبل الوقوع الحقيقي ، الشيء المذهل في الأمر حول هذه الخطة ليس رد الفعل العربي والعالمي الفاضح والعاجز ، بل هو فقدان الولايات المتحدة كامل لياقتها الدبلوماسية وانحيازها المطلق نحو الجريمة الصهيونية ، وتقزيم أكبر دولة في العالم وتحويلها إلى مجرد عبد تابع يجر جيوشه وأسلحته وقدراته لخدمة حفنة من المجرمين وضرب تاريخ كامل من الاستقرار والأمن العالمي وتحويل قوانينه إلى ممسحة . بعد متابعة متعمقة طيلة الشهور العصيبة الماضية من القتل والتدمير والاعتداء على الأرض العربية يمكن للمرء أن يفكر بطريقة مختلفة الرؤية ، لأننا يجب ان نفهم بأننا أمام خطة وإصرار وحشد على تغيير معالم المنطقة ، وهذا التغيير لا يعني فقط إزالة كل مواقع وبؤر الممانعة من غزة حتى ايران ، بل يتعدى الأمر ذلك إلى إحداث تغييرات استراتيجية كبيرة الأبعاد أطماعها ليست مجرد أطماع تقليدية عرفها العالم ، بل نحن أمام مرحلة استعمارية مولودة من رحم فصول كاملة خبيرة متحورة عن الاستعمار السابق ، لها الخصائص الآتية :- ad -العدو فيها غير معلن حجما وفكرا ونوايا ، كل هذه المحددات مضللة المعالم و مغلفة بالخداع والكذب لأقصى حدودهما وتماهت فيها الضحية المتعاونة مع عدوها ، النوايا الحقيقية لهذه الحملة غير واضحة ومغطاة بحملات السلام والأمن والنعيم ويتم اللعب فيها على وعي الشعوب وتصوير الأمور بحجوم أصغر بكثير من حجمها الحقيقي. -الإبادة والتهجير القسري هما عنوانان رئيسيان لها ، وهذا ما يفسر تكسير كل الأعراف والقوانين الدولية الحالية المعتادة لفتح المجال أمام الجرائم بحدها الأقصى دون محاسبة ، هذان المصطلحان لا يقتصران على غزة بل هنالك كما يمكن التوقع خطط موازية معدة جيدا لسوريا ولبنان والأردن ومصر أجزاء واسعة من الخليج العربي وربما أبعد كثيرا. -إن القوى الاستراتيجية الأساسية في المنطقة ايران ، تركيا ، مصر في حالة تقييد ومستهدفة بأكثر مما هي غزة ، وما لم تتخذ قرارها بمواجهة هذه الحقيقة بإحداث ثقل نسبي أو تأثير حقيقي في مستقبل المنطقة أو مصيرها ، فإنها ليست بعيدة عن الإذابة والتركيع أو التلاشي ، أما الدول الأصغر فهي تنتظر مصيرها المحتوم باستسلام كامل. -هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي تتغير فيها معايير الانتصار أو الهزيمة بعيدا عن الحسابات العسكرية والسياسية التقليدية لأن الصراع ليس بين قوى متكافئة أو دول متوازنة ردعيا ، معايير القوة الجديدة هي الفكرة الأخلاقية الإحسانية للكون والحياة وتحملها الضربات وعدم استسلامها لكل أشكال الضرر والأذى في سبيل هذه الفكرة ، معايير الضعف هي الاستكبار والاعتداء والتحالفات الباطلة القائمة على الثروة الزائفة ، العربدة والغطرسة بالترسانات الحديثة من الأسلحة وقتل الأبرياء والاعتداء على أسس الحياة والنظام دون وجه حق . هنالك عقبات متنوعة تقف في وجه هذا المخطط أو تتسبب في تأجيله أو تعثير مساراته : استحالة تحقيق الانتصار الذي يتكلم عنه المجرم نتانياهو بأضلاعه الثلاثة داخل غزة التي تحولت إلى عقدة مستعصية في بلعوم الكيان الصهيوني . كابوس جماعة أنصار الله لا يمكن أن يمنح الحلم الصهيوني النوم الهانىء أو التخطيط المثالي لسير رغباته . تهديد حزب الله لا يزال قائما ولم ينته بالصورة المنشودة للطموح الصهيوني . الخطر الايراني لا يزال قائما بحجمه وتماسك نظامه وامتداداته وهو خطر قابل للتفاعل الى تداعيات غير معروفة الآفاق على المشروع الصهيوني. الخطر المستقبلي الأكبر هو مصير فكرة (التعايش ) التي روج لها الكيان الصهيوني ومطبليه طيلة العقود الماضية والتي تكشفت بأنها علاقة تطفل إبادي وليس تعايشا ، لقد زرعت الجريمة الصهيونية في المنطقة شعورا متعاظما بضرورة اللجوء إلى ثقافة المقاومة كونها وسيلة الإنقاذ ودرع المواجهة وأداة الانقاذ أمام وحشية وهمجية الكيان ان السيناريو لما يجري في المنطقة وغاياته ومساراته يبدوغائما وملتبسا ، لكن يمكن ملاحظة الاتي : إن المشهد الفاجع الحادث في غزة ليس تكتيكا عسكريا سياسيا ، بل هو غاية وهدف ، المطلوب هو تعليق غزة بخراباتها بالعذاب الذي فيها ، بالضنك والحياة المستحيلة ومشاهد البؤس الإنساني لتبقى غزة دليلا حيا على جبروت ومناعة وغضب النظام العالمي الصهيوني ودرسا لمن يعصيه أو يشق عصاه ، ليس المطلوب إعادة إعمار أو ايقاف الحصار ، لاتوجد أية نوايا حول هدنة أو مفاوضات ، كلها خدع هدفها قتل الأمل وتخدير المحتجين ، هذه الصورة المأساوية هدفها ترجمة القضية الفلسطينية وهوية شعب وأرض إلى مسألة معونات وطحين وووقود وبيوت متنقلة وايواء نازحين ونسيان مأساة شعب له حقوقه الشرعية والتاريخية ونضاله طيلة عقود مريرة . في الوقت الذي يجري فيه إشغال الرأي العام العربي والعالمي بجريمة التجويع الجارية في غزة وملهاة المفاوضات ، تجري تحضيرات أكثر خطورة لخطوتين قادمتين ، الأولى هي التحضرات للضربة التالية المحكمة لايران ، والثانية تلعب فيها سوريا الجديدة دورا خطيرا للغاية في ملفات المنطقة ، ويبدو ان هنالك تحضيرات كبيرة وترتيبات قد تم حسمها في لقاءات أذربيجان وباريس وغيره مما لانعلم ، إن ما يجري في سوريا من عمليات فرز وصناعة بؤر مشتعلة في السويداء والساحل السوري وغيره ليست بعيدة عما يجري في غزة وهي على الأرجح الاصابع الاسرائيلية كما وكيفا ، العملية الجارية هي اعادة قولبة سوريا لتكون مستوعبا جديدا للتشريد الفلسطيني واذابة القضية الفلسطينية وهضم مشاكل كبرى عالقة في المنطقة . إن المهدد بالزوال والتلاشي ليس القضية الفلسطينية ، بل هي دول سايكس بيكو الصامتة أو المتواطئة مع الاحتلال ، إن مصطلح الأمن القومي العربي لم يكن في خطر كما هو اليوم ، بل ربما صار من النكت السخيفة أن نذكر هذا المصطلح ، والخطر على الانظمة العربية لا يأتي من المقاومة الفلسطينية التي يحاربونها اليوم بأشد مما يحاربون اعداءهم ، ولا هو من ايران المقيمة تاريخيا معهم وبهم ، إن الخطر الأساسي الثابت الذي لا ريب في هو هذا الكيان السرطاني وصانعه القادم من وراء البحار. لا احد يعرف ماذا يوجد في جعبة المجرمين ترامب ونتانياهو اكثر من التجويع والقصف المرعب وقتل النساء والأطفال وحرق خيام النازحين ، نعلم بأن غزة على موعد مع مزيد من الترويع والعذاب والاغتيالات ، لكن فريق الشيطان على موعد مع جولات جديدة من قتل جنوده وانهيار تماسك جيشه ومزيد من الاخفاقات السياسية الامريكية التي ستعجل سقوط ترامب ودولته العابرة نحو الهاوية ، ان المنطقة مفتوحة على بوابات واسعة من المقاومة وليس الخضوع أو الاستسلام كما تروج الآلة الإعلامية الصهيونية العربية في سوريا ولبنان واليمن وايران وحتى المواقع التي لا يمكن تخيل الثوورة فيها ، والشيء المؤكد الذي نؤمن به هو فشل كل خطط المجرمين وسفاكي الدماء وخضوعهم لإرادة الشعوب والمقاومة التي تمثلها . في كتاب البيولوجي يقول العلم بأن الحامض النووي DNA هو المسؤول عن كل تفصيل في جسمك وشخصيتك وطباعك ولون عينيك ونوعية الأمراض التي انت مؤهل لها وحتى مزاجك في الأكل والألوان والعاطفة وكل شيء ، إنه سر الحياة المؤلف من أربعة قواعد نيتروجينية فقط ، ولكن هذه المركبات قادرة على تغيير ترتيبها لتصنع ملايين الاحتمالات لتكوين الحياة بكل صورها وتنوعها ، إن هذا الحمض هو اللغة الخاصة بعالم الخلق وتركيب الأحياء بما أبدعه الخالق ، في داخل بلادنا هنالك مكونات خاصة للحمض النووي الموروث الذي لا يريد الغرب الاعتراف به أو رؤيته ، إنه الحمض النووي المعجون بالشخصية العربية الإسلامية والتي تحمل شيفرات المقاومة ورفض الذل والمهانة والاستكبار بكل أشكاله وأممه ، انها مركبات الثقافة الاسلامية العربية التي لا تعترف الا بالله ربا واحدا والخضوع له وحده ، وتحارب الربا والجريمة والاعتداء على الانسان وتحرم روحه وتوفي العهود وتصون الحياة ولا تقبل بالظلم ، هذا المزيج البسيط هو الذي يؤلف ألآف الأشكال من المقاومة والرفض والممانعة وهو نفسه الذي ينتقل عبر جينات البشر في بلادنا مهمـــا تكاثر العصاة والمرتدون والخونة وتناسخت سلاسلات القبائل الفاجرة ، هذا الجين هو الذي سيظل يقاومكم ويقف في وجهكم ويفشل مؤامراتكم ، إنه اللغة والشيفرة التي تنتقل من جيل إلى جيل من الجزائر إلى العراق إلى لبنان واليمن وفلسطين كي نهزمكم كل مرة وكل جولة ، وكي ننهي الكابوس الاسرائيلي الأكبر الذي يعيش في كل بلادنا . كاتب عربي من فلسطين
نقلا عن رأي اليوم











