عصر مثير. هذه هي العبارة التي اختارها المؤرخ البريطاني الراحل أريك هوبسباوم عنوانا لسيرته الذاتية التي نشرت أوائل هذا القرن، بُعيْد سنوات فقط من نشر كتابه الشهير «عصر التطرّفات: القرن العشرون الوجيز 1914-1991» الذي كان بمثابة تعقيب باهر على الثلاثية التي أرخ بها للقرن الـ19: عصر الثورة. عصر رأس المال. عصر الإمبراطورية. وقد شرح هوبسباوم أن عبارة «عصر مثير» هي التسمية التي يطلقها الصينيون على أي حقبة تاريخية زاخرة بالتقلبات والفتن وصروف الدهر وعظائم الأمور، أي الحقبة التي يحار المعاصرون في فهمها. ولهذا فالنص الإنكليزي الحرفي للعنوان هو «أزمنة مثيرة»، بمعنى أنها أزمنة مثيرة للاهتمام بقدر ما هي أزمنة باعثة على الهم والحيرة والاغتمام.
ولا ريب أن العصر الذي أظلّنا منذ ثلاثة عقود، أي منذ نهاية «القرن الوجيز»، هو من أكثر عصور التاريخ البشري إثارة للحيرة وللهم الناشئ عن عدم الفهم. إذ إن الحال العامة السائدة لدى الأفراد والمجتمعات اليوم هي الشعور بالدوار والدوخة إزاء عالم لم يعد معظم الناس قادرين على تهجية حروفه. وهذا بالضبط هو منشأ الاحتفاء الأوروبي بكتاب «سلطة التنويم (أو الحكم بالتنويم): ترامب، ماسك وفَبْرَكة الواقع». إذ يبدو كما لو أن الكتاب اهتدى إلى ما ينير للناس ظلمة هذا العصر الحالك بكثرة تعقيداته وتشعب تقنياته وابتكاراته الخطرة. والفكرة التي يقوم عليها الكتاب هي أن الرأسمالية الرقمية في هذا العهد المتأخر من الحضارة المادية التائهة قد أتاحت لبعض الأنظمة السياسية، وفي طليعتها النظام الترامبي، القدرة على تهشيم الواقع، مثلما تهشم المرايا، وتحويله إلى شظايا متطايرة وسرديّات متنافسة متنافرة ينتجها الذكاء الاصطناعي وتقودها الخوارزميات (هذه التي سبق لكاثي أونيل أن سمّتها «أسلحة رياضيات الدمار»).
يبدأ الكتاب بهذه الكلمات: «الحكم بالتنويم هو أول نظام سياسي في التاريخ يفعل فعلا مباشرا في الوعي البشري. هو نظام لا يتحكم في الأجساد ولا يقمع الأفكار. بل يعمم سباتا صاحيا ويحدث انتشاء وظيفيا، بحيث يعوض اليقظة بالحلم الموجّه والواقع بالإيحاء الدائم. إنه نظام يشكِّل الانتباهَ مثلما تشكَّل الموجة (في هندسة البث الجماهيري) ويفتعل الحالات الشعورية افتعالا ويتلاعب بها باستمرار (..) والنتيجة هي إخلاد الفكر النقدي إلى النوم بكل هدوء وإعادة تركيب الإدراك طبقة فطبقة. وفي أثناء هذا كله لا تني الشاشات تلمع وتهمس في ليل العقل الدامس (..) لم يعد هناك مركز ولا سردية موحَّدة وموحِّدة تمكّن من فهم العالم (..) لقد صرنا نحيا في حالة تنويم مغناطيسي دائم، حيث يظل الوعي مغيَّبا ولكنه غير مُطفَأ تمام الإطفاء (..) ويتسيّد هذا المشهدَ وجهان شهيران هما ُمنشِآ هذه الحقبة العالمية ورمزاها الأبرزان: دونالد ترامب وإيلون ماسك. وليس هذان شخصين مسيطرين متمكنين فحسب، بل إنهما الداعيان المبشّران بهذا النموذج الجديد. إنهما طليعة القوى المتعارضة، ولكن المتكاملة، في المعركة من أجل الواقع. ترامب يستنزف اللغة استنزافا: كلماته المَلوكة المكرورة بلا نهاية تصير دوالّ جوفاء، خالية من المعنى ولكنها مشحونة بقوة تنويم مغناطيسي. أما ماسك فإنه يغرق خيالنا في وعود طوباوية مصيرها ألا تتحقق أبدا، ولكنها تجرف العقول في نشوة مستمرة من الهوس باستباق المستقبل. وهكذا يتضافر الرجلان ويتواطآن على تشكيل الرغبات وإعادة تحديد التوقعات واحتلال اللاوعي. فكلاهما صار أستاذا في فن افتعال الأزمات لكي يقدم نفسه بعد ذلك على أنه الحل»!
لقد أتى الكتاب بفكرة مثيرة لعصر مثير: نظام الحكم بالتنويم وبتغييب الوعي نظام لا يسود بالقوة أو القسر، ولا بالإقناع العقلاني، ولكن بالتكييف المستمر لحالات الوعي الجماعي. صحيح أن هذا ليس أول تحليل لحالات النشوة أو الوَجْد التي يثيرها زعماء السياسة في الجمهور. فقد سبق لغوستاف لوبون أن درسها في سيكولوجيا الجموع ولماكس فيبر أن قاربها بمفهوم الكاريزما. ولكن مفهوم الحكم بالتنويم يُغني التحليل بعناصر جديدة مأتاها التطور المعاصر للخوارزميات. فذلك هو منطلق الحكم بالتنويم: إنه تحويل الواقع إلى معلومات. إنه تسطيح الواقع بتحويل كل شيء إلى متواليات من الأعداد القابلة للحساب. وعلى هذا الأساس تقوم بنية فوقية معلوماتية تختلط فيها الوقائع بالأباطيل فلا يعود مِن قيمة لا لهذه ولا لتلك.
العجيب: رغم كل ما سبق، فإن قصة هذا الكتاب المثير لم تبدأ بعد، وإنما هي تبدأ حقا عندما تتاح الفرصة للتعرف على مؤلفه الغريب الأطوار.
كاتب تونسي
نقلا عن القدس العربي