عندما يتكلّم نيتشه عن الدولة في «هكذا تكلّم زرادشت» ويصفها بأنّها «ذلك الوحش البارد، تكذّب بكذب جليديّ: أنا الدولة، أنا الشعب» فعن أيّ نمط من الدول يسري عليه هذا الكلام في عالم اليوم؟
التوحّش والنفاق سيحيلان أكثر على نماذج الدول الفاشلة التي قامت على أنقاض الإدارات الاستعماريّة.
الدول التي تضمحل فيها «المؤسسات» لصالح «الأجهزة» والأجهزة لصالح «العصائب»، والشقاء فيها تداولٌ بين تمليش الأجهزة، و»تجهّز» الميليشيات و»تجهبزها».
لكن نيتشه ما كان يفكّر بعالم ما وراء البحار هنا في قولته. بل كان يستهدف من النماذج، أرقاها في زمانه، «الدولة البيروقراطية – الشعبيّة» الأوروبيّة إن صحّ التعبير.
تلك القائمة على جهاز دواويني تراتبي ضخمّ، هذا من جهة، وعلى المسعى لـ»تجسيد» الشعب، من الجهة الثانية، والاستقاء منه مصدر شرعيّة «استبداليّ» للشرعيّة المستقاة سابقاً من السماء. إنّما المحاكي في الوقت نفسه للشرعية السماوية المستعاض عنها.
الدولة من حيث هي ذلك الكائن المتعالي على المجتمع، والمحايث له، المباطن بل المطابق له في آن: هذه مفارقة عدّها الفيلسوف الألمانيّ باطلة من تلقائها، والأهم قائمة على امتصاص ما هو حيويّ عند الناس.
لكنّ نيتشه عند قال في الدولة مثل هذا الكلام، أي عندما وصفها بـ»الوحش البارد» قام بذلك بالتأسيس على أنّها دولة وجدت لتحسب، الكبيرة والصغيرة، يومها ويوم الناس. وحش صقيعيّ. يكذب دون أن ترفّ له جبن، لكنه يحسب، يعقلن المسائل بمعيته. إنّما يعقلنها في نطاق كذبتين، لا واحدة: «أنا الدولة، أنا الشعب». أهمية نقد نيتشه لمفهوم الدولة هنا في رفضه التصديق على التصوّر «العضويّ» لها، أي ذاك التصوّر الذي يجعلها كإنسان ضخم، كحياة جماعية. ليسَ في الدولة من حياة جماعية. بل أنّ كلفتها تحتسب بما تتكبدّه الحيويّات المجتمعية من جرائها. محيّر نقد نيتشه للدولة إلى حد كبير. لا يمكن ركنه في باب فلسفات «إلغاء الدولة». وإنّما قبل كل شيء إبطال إدعائها الصميم عن نفسها. ليست جسداً حيّاً جماعياً ولا يمكنها أن تكون كذلك. هي مسخ جليديّ. مسخ يحسب. ما فات نيتشه هو النموذج الآخر: الدولة الفاشلة في الحساب. الدولة المهجنّة ما بين الجهازيّ والميليشياويّ، ما بين القبليّ والريفيّ والعشوائيّ. الفارق هنا كبير. بين من يقرّر بحساب بارد وبين من يبطش بدم بارد. الفارق أنّ الدولة البيروقراطية الشعبية عندما تصرّح عن نفسها بأنّها دولة، وبأنّها الشعب، فإنّ عمقها الريائيّ يتكدّس فوقه مجهود منهجيّ لتجسيد هذا المزعم بالفعل، لإسباغه بالحيثيات والحجج والدعائم. أما دولة التوحّش اللاصقيعيّ، تلك التي لم يعرفها نيتشه، تلك التي نكب بها عدد من مجتمعات العالم الثالث يوم ورثت الدولة الوطنية الإدارة الكولونيالية وغدت تستعير من مسميّات وظائفها وأجهزتها ومرافقها وتخلط الحابل بالنابل، وتصبح «واجهة دولة» لما ليس بدولة، فهذه لا هي تأخذ نفسها، ولا من يتولاها، ولا من يرزح تحتها على محمل الجد إن نادت على نفسها بأنّها الدولة، وبأنّها هي الشعب.
هل ثمة ما يجسّر الهوّة بين هذين النموذجين؟
نموذج الدولة البيروقراطية الشعبية، الذي تحمّل نقد نيتشه الوجيه له، ونموذج الدولة الجهازو-ميليشيا-عصائبية، ذلك «المسخ» اللزج والخبيث والفظّ في آن، لكنه غير القادر على احتساب أي أمر في أوّل الأمر وآخره؟
ما يجسّر الهوّة هو كلام نيتشه: «الكثير من الناس يولدون أكثر مما ينبغي: وقد تم اختراع الدولة من أجل الزائدين عن الحاجة.» ربمّا كان هذا أخطر ما قاله. ولا شكّ أنه قول يغري باستنباط «فاشية» ما منه، ولو أنّ الفاشية قامت على العكس هنا، أي على اعتبار الدولة هي الكائن الحيّ الجماعي المطلق الذي لا قيمة للحياة من دونه، والذي ينبغي السعي للمطابقة التامة بينه وبين المجتمع. هنا كلام نيتشه يفتح الباب في الوقت نفسه لنقد جذري للفاشية، إنما أيضاً لنفحة فاشية حين يتحدّث عن «الزائدين عن الحاجة» في مجتمع ما. فكل فاشية، لم تقم لها قائمة إلا بتقدير أنّ هناك في كل مجتمع من يجب تنمية وجودهم أكثر، وزائدين عن الحاجة، من الأفضل الاستغناء عن وجودهم. والحال أن النقاش حول علاقة نيتشه بالأفكار الخطرة، بمقدّمات الفاشية، حول سجال لن ينتهي في يوم. لكنه بكلامه عن «الزائدين عن الحاجة» يمرّر الكرة للفاشية بشكل أو بآخر، في حين أنه بنقده الحاد للدولة من حيث هي «وحش بارد» وكذوب يعطي الأسانيد أكثر من أي عقل آخر لما فيه نقد كل منزع إلى التغوّل والتسلّط والشموليّة. مع هذا، فإنّ جملته «وقد تم اختراع الدولة من أجل الزائدين عن الحاجة» تغري بالكثير من المقايسات. تغري بالتفكير بالرداءة. وحجم الرداءة الذي تسلّط على المجتمعات العربية مهول. الرداءة أخطر من الديكتاتوريّة نفسها، ومن هدر الموارد والطاقات وتبديد الحاضر والمستقبل. والمعركة مع الرداءة لا أصل لها من دون نيتشوية ما، من دون حاجة أساسية لإعادة التذكير بالسمة الدهمائية للطغم التي دفعت هذه المنطقة من العالم إلى حضيضها، وأقلّه – الحنين – لأرستوقراطية ما. أخلاق الأحرار، في مقابل أخلاق العبيد. ليس من السهل إبعاد فكرة نيتشه عن الدولة عنا إذا ما أردنا بالفعل التفكير في السمة المسخية للدول التي نكبت بها مجتمعات ما بعد الاستقلال في العالم الثالث ككل، وفي المنطقة العربية بشكل متفوّق في الرداءة، مقرون بتحويل الرديء إلى الشرط الناظم للسرديات حول المظالم وحول الملاحم، المغناة كي لا تخاض، لا بل الفاقدة للغنائية منذ وقت طويل.