حروب عبثية لم يتعلم دروسها أحد

 مالك التريكي

أظهرت التفاصيل التي نشرتها الصحافة الأمريكية بشأن إنهاء حملة الغارات الجوية على قوات الحوثيين في اليمن أن الأسباب الحقيقية لوقف إطلاق النار لا علاقة لها بما أعلنه الرئيس الأمريكي.
فقد أحدث ترامب المفاجأة عندما أعلن أن النصر العسكري على الحوثيين قد تحقق، وأن المهمة التي أوكلها إلى الجيش الأمريكي (أي تأمين طرق الملاحة في البحر الأحمر) قد أنجزت بنجاح، بينما كان الواقع يفند هذا الزعم لأن قوات الحوثيين ظلت، حتى بعد إعلان «النصر» الأمريكي يوم 5 مايو، قادرة على إطلاق الصواريخ والمسيّرات سواء في البحر الأحمر أم في عمق كيان الاحتلال الإسرائيلي.
وحقيقة الأمر أن ترامب كان يتوقع أن شل قدرات الحوثيين لن يتطلب أكثر من شهر. إلا أن الحملة استمرت شهرين كاملين واستلزمت شن حوالي 1100 غارة جوية راح ضحيتها مئات من اليمنيين، وأدت إلى سقوط العديد من المسيرات الأمريكية وانزلاق طائرتين من على ظهر حاملة الطائرات «هاري ترومان» وإصابة طياريهما. كل هذا بدون أن تحقق الحملة أيا من أهدافها، بل إنها كلفت، بمجرد انقضاء الشهر الأول، مبلغ مليار دولار (!) فلا عجب أن ينفد صبر ترامب، المعروف بأن كراهيته للخسائر المالية هي السبب شبه الوحيد لكراهيته للحروب، ويتلقّف يد الوساطة العُمانية التي أنقذته عندما سهلت له اتفاقا مع الحوثيين يقضي بوقف القصف الأمريكي على اليمن مقابل إقلاعهم عن استهداف السفن الأمريكية (أما سفن الدول الأخرى المتعاونة مع إسرائيل فلم يشملها الاتفاق). إذن فالسبب الحقيقي لإنهاء حملة القصف ليس النصر الأمريكي، وإنما هو صمود القوات الحوثية الذي كبد الأمريكيين خسائر مالية وعسكرية فادحة. وهذا ما اعترف به ترامب نفسه من حيث لا يدري عندما قال «وجهنا لهم ضربات موجعة جدا ولكنهم أبدوا قدرة بالغة على تحمل قسوة الهجمات. يمكن القول إنهم تحلوا بكثير من الشجاعة».

وما هذا إلا أحدث دليل في سلسلة طويلة من الأدلة التاريخية على الحقيقة التي أكدها بورقيبة لعبد الناصر في فبراير 1965: حقيقة استحالة إخضاع أهل اليمن. قال له إن عدد جنودكم في بداية تدخل مصر في اليمن كان ألفي جندي أما الآن فقد بلغ سبعين ألفا (!). أسمح لنفسي كأخ تونسي بأن أنصحكم بالانسحاب من اليمن. لا أحد في التاريخ استطاع احتلال هذا البلد، لا الإنكليز ولا الفرنسيون. هنا أحال عبد الناصر الكلمة إلى المشير عبد الحكيم عامر، فأجاب: لقد فات أوان معرفة ما إذا كانت هذه الحرب شرعية أم لا. نحن الآن في أتّونها، وقد خسرنا مئات الجنود وأنفقنا أموالا طائلة ولا يمكننا التراجع! رد بورقيبة: لا يجوز للمسؤول أن يفكر بهذه الطريقة. ليس لأنكم خسرتم كثيرا من الرجال فينبغي عليكم الاستمرار في الخسارة. إن من صميم مسؤولية السياسي أن يعرف كيف يتراجع عندما يجد نفسه في مأزق. عليكم بوضع حد للأضرار التي حاقت بشعبكم. أجاب عبد الناصر: سيكون الأمر صعبا، ولن يفهم الشعب ذلك. فختم بورقيبة أسِفا: ستكون هذه إذن حرب المائة سنة بالنسبة لكم! وحتى لو بلغت ضحاياكم مائة ألف جندي، فلن تفوزوا بهذه الحرب.
وهكذا بعد أن نبه بورقيبة عبد الناصر، مثلما ذكرنا الأسبوع الماضي، إلى أنْ ليس من مصلحة مصر أن تخوض حربا مع إسرائيل ما دام ميزان القوى في غير صالح العرب، فإنه نصحه بوقف حربه العبثية على اليمن. ولأن هذه الصراحة غير معتادة، بل نادرة جدا، في العلاقات العربية فقد خيم بعدها صمت ثقيل بين الزوار التونسيين ومضيّفيهم المصريين. وتعليقا على هذه «القطيعة مع ما تعوّدته الدبلوماسية المشرقية من خطاب معسول في تلك الفترة وربما إلى اليوم»، تساءل الأستاذ محمد مزالي: «هل فعلت كلمات بورقيبة الصريحة، والخالية من اللف والدوران، فعلها؟ على كل، لقد أذعن عبد الناصر في آخر الأمر وذهب في 23 أغسطس 1965 إلى جدة لملاقاة الملك فيصل، طالبا منه الصلح، بعد أن هاجمته بحدة وسائل إعلامه. وأمضى اتفاق جدة الشهير، وأجلى جيوشه من اليمن. وأبى المرحوم الملك فيصل إلا أن يحفظ ماء الوجه لضيفه من باب المروءة وعلوّ الهمة».
وبعد، فيُحفظ لعبد الناصر أنه استوعب الدرس. أما الحروب العبثية الأخرى فلم يتعلم دروسها أحد: حرب السنوات الثماني مع إيران؛ غزو الكويت؛ حروب ليبيا؛ حروب السودان؛ الحرب (الباردة-الحامية) بين الجزائر والمغرب، الخ.

كاتب تونسي

نقلا عن القدس العربي

أحد, 18/05/2025 - 14:37