من أخطر وأعجب ما قرأت عن الاستبداد وقدراته الخارقة على تدجين البشر وترويض وعيهم وتبليد حسهم ما كتبه نيتهان لاو في وصف النظام الصيني. يقول هذا المعارض الذي فر من هونكونغ طلبا للجوء في بريطانيا، والذي كان عام 2018 من المرشحين لجائزة نوبل للسلام، إننا عادة ما نظن أن أنظمة التسلط تفرض سلطانها بالقوة الغاشمة، إلا أن الأمر قد يتعلق في بعض الحالات بمسار تراكمي من التفكيك التدريجي لمؤسسات السياسة والقانون والمجتمع المدني. صحيح أن القمع والقهر مقومان أساسيان في حكم الاستبداد، ولكن ثمة في الوقت ذاته ما هو أقوى وأخطر: إنه العمل على جعل الشعب عاجزا عن مجرد إدراك حقيقة أنه مظلوم مقهور!
ويتخذ الاستبداد للوصول إلى هذه الغاية طرقا متعددة، منها العمل على أن تنعدم الثقة بين المواطنين فيعجزوا عن التعاون ولو لغاية بسيطة مثل الخروج في مظاهرات. ومنها الخوف من أن يكون زميل العمل عونا للنظام أو عينا للشرطة وأن يوقعك في الجب. ومنها أن يبث النظام الفرقة والكراهية بين أبناء البلد وبناته فينقسم المجتمع ويصير رهين ثنائية استقطاب مزمنة. ومع ذلك فإنه لا تزال في أيدي المناضلين في سبيل الحرية سلطة فاعلة هي سلطة تصور إمكانات التحرير والتغيير والإيمان بالقدرة على تحقيقها، وهذا بالضبط هو ما يتوجس منه الطغاة الذين يخافون شعوبهم.
أما أستاذ علم النفس الاجتماعي بيتر كريكو فإنه يقول إن الطريقة التي تمكن بها فيكتور أوربان من تأبيد بقائه في الحكم وتحويل النظام السياسي المجري إلى ديمقراطية لا-ليبرالية، أي إلى «ديمقرا-تورية»، لا تتمثل في القمع البوليسي أو الرقابة الرسمية، بل في السيطرة الكاملة على جميع وسائل الإعلام ومنصات التواصل. إذ إن التلاعب بالمعلومات والتحكم في الأذهان إذا نجحا أغنيا الحاكم عن مشقة استخدام أدوات القمع والعنف المعهودة في الديكتاتوريات. ولكن من طبيعة نظام الاستبداد الإعلامي هذا أنه لا يعدو على الحريات المدنية عدوانا مباشرا: فلا تقييد لحرية التجمع والتعبير، ولا وجود لسجناء سياسيين، ولا اغتيال للمعارضين، ولا قمع للصحافيين مثلما هو الأمر في روسيا مثلا. ذلك أن السيطرة الكاملة على مجالي الإعلام والتواصل كفيلة بأن يسود الخطاب السلطوي فيتحول إلى سردية جامعة مانعة. وهذا الضرب الجديد من الاستبداد، الذي لا يقوم على الترهيب بل على التلاعب بالرأي العام خلف واجهة من الديمقراطية الصورية، هو الذي سماه باحث الاقتصاد الروسي سيرغي غورييف والباحث السياسي الأمريكي دانيال تريسمان «ديكتاتورية التحايل والتحامل الإعلامي».
وينبه كريكو إلى أن الاستحواذ على المؤسسات الديمقراطية لتكريس الحكم الفردي في هنغاريا إنما جرى بالتدريج على مدى خمسة عشر عاما ولم يحدث دفعة واحدة مثلما نشهد الآن في الولايات المتحدة. ولهذا فمن الصعب أن نحدد بوضوح العتبة أو اللحظة التي توقفت فيها الديمقراطية وبدأ الاستبداد. ولكن اللافت للانتباه هو أن هذا النموذج المجري قد سرت عدواه إلى البلقان، في سلوفينيا ومقدونيا الشمالية والبوسنة وصربيا، بلوغا إلى بولندا. كما أن أوربان ألهم بنموذجه هذا ساسة من أمثال رئيس الحكومة السلوفاكي روبرت فيكو. ومعروف أن حملة ترامب الانتخابية استفادت من تجربة أوربان في التكاذب والتلاعب الإعلامي، وأن أوربان هو أول المساندين الأوروبيين لكل من ترامب وبوتين.
وإذا كان معظم الجمهور العالمي لا يعرف شيئا عن حاكم الأرجنتين الغريب الأطوار، فإن كثيرا من رواد منصات التواصل ومدمني الشاشات قد لمحوا ذلك المشهد المثير للرئيس خافيير ميلاي وهو يشارك أثرى أثرياء العالم إيلون ماسك التلويح بالمنشار الكهربائي إيذانا بأن ساعة الحساب قد أزفت: ساعة إلغاء مئات آلاف الوظائف في الإدارات الحكومية والمؤسسات العمومية بزعم القضاء على أخطبوط البيروقراطية وتحرير القوى الإنتاجية. وعن هذا يقول الكاتب بابلو ستيفانوني إن ميلاي أعلن أنه أتى لتدمير الدولة من الداخل ولكنه يستخدم الدولة لتعزيز حزبه ومشروعه السياسي. فهو رجل ذو ميول استبدادية ولكنه يبشر بالحرية ولا يكاد يذكر الديمقراطية مجرد الذكر. ذلك أن مواقفه قريبة من مواقف «رجعيّي التكنولوجيا» الأمريكيين الذين يقولون بضرورة حكم الشعوب حكما شبه سلطاني على نحو ما يفعل مديرو الشركات والمصانع مع العمال والموظفين. فقد صار معلوما أن إيلون ماسك وبيتر ثيال وكورتيس يارفين وأتباعهم لم يعودوا يتظاهرون ولو مجرد التظاهر بأنهم يؤمنون بالديمقراطية.
كاتب تونسي
نقلا عن القدس العربي