الإسلام السياسي في موريتا مكامن القوة ومظاهر الضعف (ج 2).

الشيخ عبدي ولد الشيخ

في المقال السابق تناولنا في نقاط معدودة مظاهر القوة وملامح الضعف في خطاب وتجربة الإسلام السياسي المحلي، فيما سنخصص هذا المقال لعرض جوانب القصور والضعف في الخطاب والبنية والممارسة، مع التزامنا بالإيجاز والإجمال. والاكتفاء بالمقدمة التأطيرية الموجزة التي تضمنها المقاول الأول الذي لخصنا فيها ظروف وسياق نشأة التيار وحضوره في الساحة. وبالتالي ندخل مباشرة في تلخيص نقاط الضعف التي من أهمها:

1. الاشتغال وفق نظرية الخطوط: تعنى هذه النظرية أن البناء التنظيمي المعتمد قائم على: خط أمامي يباشر الأعمال الحركية العامة، بمختلف أصنافها، ثم خط خلفي يشتغل في كامل السرية ببرنامج آخر لا علم للخط الأول به. يمكن القول إن هذا التقليد التنظيمي الذي درج الإسلاميون على اعتماده كان وراء العديد من أزمات الثقة داخل البنى التنظيمية التي يتصدع الجدار العازل بينها أحيانا، تارة بسبب خلافات حادة بين قيادات الخط الخلفي (التنظيم المركزي) أو بفعل الحس التنظيمي العالي لدى بعض عناصر الخط الأمامي (التنظيم العام) . ولعل مقولة: إنه سينشر غسيلكم كما نشر غسيلنا التي قالها القيادي المؤسس الحسن ولد مولاي اعل تعليقا على الأزمة التنظيمية التي عرفتها الحركة الإسلامية في منتصف الثمانينيات وعُرفت في أدبيات التيار الإسلامي بأزمة اليسار الإسلامي، دشنت فاتحة عهد انزعاج القيادة من تسرب معلومات تنظيمية من لدن أحد قادة "الجماعة الإسلامية" إلى الشباب الذين التفوا حول الأستاذ محمد ولد سيدي واستطاعوا إحداث بلبلة تنظيمة أجبرت التنظيم المركزي على التظاهر بحلَ إطاره التنظيمي، والدخول مع الشباب في إطار تنظيمي واحد هو: حركة الإسلاميون في موريتانيا التي بذل الشباب جهدا مضنيا في وضع نصوصها، ونظُمها الداخلية، واحتلوا مناصب تنفيذية هيئاتها، ليتبين لهم بعد سنوات أنها إطار تنظيمي وهمي، وأن القيادة المركزية ما تزال تدير الأمور من وراء ستار عبر شخصيات تمسك في التنظيمين: الجماعة الإسلامية، والإسلاميون بمفاصل القرار.

إن اكتشاف الشباب للعبة التي راحوا ضحيتها، ولّد لدى بعض قياداته يومها حالة من الريبة وفقدان الثقة في الشيوخ بل والإصرار على إخراج من كانوا عراب هذه القضية.

أدى اكتشاف حقيقة الأمور إلى حل التنظيمين المذكورين والاندماج في تنظيم واحد هو: الحركة الإسلامية في موريتانيا "حاسم" التي لم تعمر طويلا لأسباب كثيرة ليس أقلها دورا اهتزاز الثقة بين الخطوط المشكلة لها.

2. صراع الهويات: من نقاط الضعف التي رافقت تيار الإسلام السياسي منذ النشأة، وما تزال ظلالها حاضرة، مسألة القلق الهُوياتي الذي رافق نشأة التيار بحكم تعايش أطروحات إسلامية ذات مشارب مختلفة داخله، وهوما سيضعف مع الوقت روح الانسجام داخل بنية هذا الكشكول الذي ستظل حركة الأفكار الإسلامية داخله في تصاعد، إذ تعايشت الأطروحة السلفية بعض الوقت مع الإسلام الأهلي الفروعي، والتصوف الطرقي، إلى جانب أفكار التيار التجديدي داخل الحركة الإسلامية المعاصرة ممثلا في كتابات الغنوشي، والترابي، وعبد الله فهد النفيسي ....دون أن نهمل حضور أدبيات الثورة الإيرانية. هذه البنية الفكرية المشكلة من كل هذه المدارس تعايشت حينا، وتصارعت أحيانا كثيرة، وقد كان ضعف منسوب المرونة في بعض رموز التيارين السلفي والأهلي الأكثر إثارة للحساسيات.

 كان هذا الوضع مسؤولا عن الخروج المبكر لأول أمير للحركة الإسلامية محمد الأمين ولد عبد الرحمن الشيخ الذي كان يومها محسوبا على المدرسة الفقهية التقليدية، ويتمتع حسب شهادات الكثير من عارفيه بكفاءات قيادية عالية، كما خرج بفعل الوضع ذاته شخصيات بل وجماعات عديدة.(متصوفون طرقيون، إسلاميون راديكاليون... )

ظل صراع الهويات هذا يختفى طورا جراء الرغبة في التعايش، أو غلبة بعض الأفكار وقوة أصحابها داخل دوائر الأطر الحزبية أو التنظيمية، ويطل برأسه تارة أخرى حين تفشل محاولات التعايش، ولعل آخر مظاهر هذه الحالة ما شاهدناه من تباين حاد في وجهات النظر داخل حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (تواصل) بين ما يمكن تسميته تجوزا بالإصلاحيين والمحافظين الذين أبدوا (المحافظين) منذ 2017 رغبتهم الجامحة في إحكام القبضة على الحزب الذي تولى قيادته لمأموريتين متتاليتين (2007 /2017) الأستاذ محمد جميل منصور وهو أحد وجوه ورموز الاتجاه الإصلاحي داخل التيار الإسلامي، والذي يبدو أن تنامي قوة المحافظين التي تعززت مع وصول الرئيس الحالي: حمادي ولد سيدي المختار إلى قيادة الحزب ديسمبر 2022، أجبرته على الاستقالة من الحزب وتأسيس جبهة العدالة والمواطنة "جمع" التي تضم خليطا من تيارات فكرية مختلفة المشارب. ويبدو للوهلة الأولى أن الأستاذ جميل ينزع في مشروعه السياسي الجديد إلى الاستفادة من تجارب وتراث الزعيم التاريخي للحركة الإسلامية السودانية في السودان حسن الترابي، فهل سينجح في إقناع الشركاء الجدد بما رفضه الرفاق القدامى؟!!

3. الفقر النظري: لا نحتاج إلى الحديث كثيرا للبرهنة على ضمور الإنتاج الفكري للإسلام السياسي الموريتاني الذي ظل _ وربما لا يزال_ يستهلك أدبيات الحركة الإسلامية المعاصرة دون أن يقدم إنتاجا نظريا يقارب الظواهر والإشكالات الفكرية لمجتمعه، كقضايا التعدد اللغوي والرق، والإصلاح العقاري، وإشكالات الأمن والاقتصاد، كما لا نجد اهتماما بقضايا الفكر المعاصر، إذ تغيب تماما عن المكتبة تصوراتهم لموضوع الدولة، والحريات، والشورى، والديمقراطية، وما شابه. ودلائل هذا الفقر النظري كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر ما حصل أيام الرئيس محمد خونه ولد هيدالة الذي استجاب رغم كثرة الصوارف والعوائق لمطلب تطبيق الشريعة الإسلامية الذي رفعته الحركة الإسلامية وألحت على تنفيذه، وحين استجاب للفكرة طلب تصورا عمليا للموضوع فلم يجد باعتراف الإسلاميين مشروعا جاهزا، مما جعل التطبيق يقتصر على تنفيذ الحدود، ثم أصبح بعض قادة التيار إذا تحدث عن فشل سياسات ولد هيدالة عد منها موضوع تطبيق الشريعة، والحق أن هيداله لم يكن منتظرا منه أن يكون صاحب التصور، فهو جهة تنفيذ وقد نفذ ما طُلب منه.

ربما يقول قائل إن وثائق حزب تواصل أثيرت فيها قضايا فكرية، وهذا استدراك وارد، لو استحضر صاحبه أن التيار الذي نتحدث عنه مر على تأسيسه زهاء نصف قرن، فهل يُعد نجاحا أن ينحصر إنتاجه الفكري والآيديولوجي في إثارة بعض القضايا في وثيقة حزبية لا تتعدى بضع صفحات.؟ أو بعض الأفكار المجملة في المقالات الصحفية؟

خلاصة القول في هذا الموضوع هي أن معامل الإسلام السياسي الموريتاني أنتجت العديد من الوعاظ المؤثرين، والخطباء المفوَّهين، لكنها أخفقت في إمداد الساحة بمُنظِّرين، وهو أمر يعود في اعتقادنا إلى اشتغاله برهة من الزمن بالخطاب الدعوي والتربوي على الرغم من كونها نشأت في مجتمع حاجته إلى التديين لا تضاهي حاجة مجتمعات سلخها التعريب وبالتالي يغدو من المفهوم أن تأخذ إعادة أسلمتها بعض الوقت.

الارتهان للخلفيات الاجتماعية: إن التجاوب التلقائي الذي حصل مع خطاب التيار الإسلامي بفعل التقاء رغبة النخب الدينية الأهلية بطموحات الشباب الحركي وفَّر على الإسلاميين الكثير من الجهد والوقت، فتمددوا في أوساط مختلفة في ظرف وجيز غير أن هذا الوضع كانت له آثار سلبية بالغة حيث تسربت كل الأدواء المجتمعية إلى جسم التيار وفعلت فعلها فيه، وبالتالي أصبح من الطبيعي أن تنشأ حساسيات بعضها ناشئ من هيمنة فئة معينة، وهون ما تنبه له مبكرا بعض المتحفظين على تجربة المؤسسين المنحدرين من فئة الزوايا التي "بحكم الموقع الطبقي الذي شغلته في المجتمع التقليدي غيرُ مرشحة للتغيير بصورة كلية وفعلية"، ولسنا هنا في وارد نقاش هذه الفكرة، بل ما يهمنا قوله إن بعض الاهتزازات التي شهدتها تنظيمات الإسلام السياسي كانت بفعل موقف بعض العناصر من عجز أو عدم أهلية فئة معينة لصدارة حركة يُراهَن على أن تقود عملية تغيير مجتمعي، ومن مظاهر الارتهان للخلفيات الاجتماعية تعاقُب المؤسسين للحركة الإسلامية على إمارتها باستثناء قياديين ينحدران من فئة الزنوج هما: الشيخ بون عمرلي، والشيخ عبد العزيز سي!!! وهو ما لم نجد له تفسيرا عدا الوقوع في أسر الخلفيات الاجتماعية. وإلى جانب الوقوع في أسر الخلفية الاجتماعية كان للصراع الجهوي دور في تأجيج الصراعات داخل الأطر التنظيمية، بل يعد في نظر كثيرين أحد العوامل الرئيسة التي أضعفت البنية وأثرت على الممارسة.

4. الانحباس في المدن الكبيرة: يلاحظ المهتمون بالإسلام السياسي المحلي أن انتشاره ما يزال حيس كبريات المدن، لا سيما العاصمة انواكشوط، وبعض عواصم ولايات الداخل، فلا حضور يلحظ للإسلام السياسي في الأرياف والقرى البعيدة من المركز، وهذا مما يفسره كون الإسلام السياسي مديني النشأة، فهو تشكل داخل مدارس ومساجد العاصمة، وتنامى في أوساط الشباب المهاجر من الريف إلى المدينة طلبا للعيش ورغبة في الالتحاق بالتعليم النظامي، وهو إلى ذلك يحمل نظريا خطابا مناهضا للقبيلة، وبالتالي من الطبيعي أن يضعف كلما ابتعد عن أسوار المدن وضواحيها. وربما يكون التفصيل في هذا الموضوع يحتاج إلى امتلاك أدوات البحث السيسولوجي وهو ما لا أتوفر عليه.

5. الخوف من التاريخ: من الملاحظات التي تشكل في اعتقادي ضعفا في تجربة الإسلام السياسي هو انعدام الرغبة في تدوين تاريخ رسمي، يوثق زهاء نصف قرن من العمل الدعوي والثقافي والتنظيمي والسياسي، ويوفر للأجيال الحالية واللاحقة معرفة كافية بماضي التجربة، إنهم يهملون تاريخهم لدرجة يشعر معه المتابع والمهتم أنهم يخافونه، فهم الحركة السياسية الوحيدة التي لم يكتب في حدود علمي أي قيادي منها مذكرات يحكي فيها تجربته الشخصية، ولم يصدر في حدود علمي أيضا عن أي من عناصرها عمل لحد الساعة يتتبع ولو بالسرد والوصف تاريخ التجربة، وحتى الشهادات المتلفزة التي أدلى فيها بعض القيادات بشهادتهم تجنبت بداع التحفظ تفاصيل كثيرة، لا مبرر في نظري لعدم الخوض فيها.

 إن الإسلامين إذا لم يكتبوا روايتهم الرسمية لتاريخهم فإن كتابات كثيرة ستملأ الفراغ بافتراضات وتفسيرات خاطئة تستحيل مع الوقت حقائق ومسلَّمات تاريخية لا تتزحزح.

 

 

 

 

 

 

 

سبت, 19/04/2025 - 10:51