في تقرير لها من تل أبيب، ذكرت صحيفة «لوموند» الفرنسية، أن إسرائيل تشهد فراراً لم يسبق له مثيل لأسباب عديدة، أهمها انعدام الأمن، في الوقت نفسه قالت سيمونا غالبرين سفيرة إسرائيل في موسكو، إن الروس الذين انتقلوا إلى إسرائيل، بدأوا في العودة إلى روسيا، كما أن بعضهم يقضي بعض الوقت هنا وهناك، وهو ما أكده من قبل الحاخام الكسندر بورودا، رئيس اتحاد الجاليات اليهودية في روسيا، وهي الأنباء التي سربتها وسائل الإعلام، منذ بداية عملية طوفان الأقصى، في 7 أكتوبر 2023، التي تحدثت عن عودة واسعة للإسرائيليين، إلى كثير من البلدان، بلغت حسب التكهنات نحو 500 ألف.
ربما يفسر ذلك أيضاً، سر إحجام الإسرائيليين النازحين من مستعمرات الجنوب، على الحدود مع قطاع غزة، ومن مستعمرات الشمال، على الحدود مع لبنان، عن العودة إلى منازلهم التي نزحوا منها في بداية الحرب، أسوة بالشعب الفلسطيني في القطاع، رغم الفارق الشاسع في مقومات الحياة هنا وهناك، حيث الدمار الذي لحق بالقطاع، سواء بالمنازل أو البنية التحتية، بل كل المرافق دون استثناء، بينما الأمر في المستعمرات لا يقارن، حيث توافر الماء والكهرباء والغاز والغذاء، إلى غير ذلك من السلع المختلفة والأمن، وإن كان هناك بعض من الدمار.
أعتقد أن هجرة بعض الإسرائيليين إلى أوطانهم الأصلية، وإحجام آخرين في الداخل عن العودة إلى مستعمراتهم التي نزحوا منها خلال شهور الحرب، هو دليل آخر على عدم الارتباط بهذه الأرض من قريب أو بعيد، سوى وهْم الخزعبلات الشيطانية الصهيونية، خصوصاً إذا عقدنا مقارنة مع ما فعله الشعب الفلسطيني، بمجرد بزوغ فجر الأحد 26 يناير، الموعد المحدد لفتح شارعي الرشيد وصلاح الدين، حسبما جاء في اتفاق وقف الحرب، قبل أن تعطل سلطات الاحتلال تنفيذ الاتفاق إلى اليوم التالي، الذي شهد عودة ما يزيد على 300 ألف من الجنوب إلى الشمال والوسط، بعد أن قضوا ليلتهم في العراء والبرد القارس. وربما كان صدى هذه المشاهد مضاعفاً، يحمل العديد من الرسائل، لأنها تأتي بالتزامن مع الطرح الاستعماري العنصري البغيض، على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي تضمن طلباً إلى كل من مصر والأردن، بالسماح باستقبال أهالي القطاع، بدعاوى وذرائع مريبة، تلقاها الشعب الفلسطيني بالتهكم والازدراء، في الوقت الذي استقبلها كيان الاحتلال، خصوصاً اليمين المتطرف، بابتهاج عام، مطالبين باستغلالها والبناء عليها، على اعتبار أن تعليمات الرئيس الأمريكي، للدول العربية مثلاً، بمثابة قرارات أو أوامر، لا تقبل النقض، أو حتى المناقشة، إلا أن ردود الأفعال، سواء من مصر أو الأردن، جاءت – حتى الآن- بالرفض القاطع، على غير المتوقع.
هجرة بعض الإسرائيليين إلى أوطانهم الأصلية، وإحجام آخرين في الداخل عن العودة إلى مستعمراتهم التي نزحوا منها خلال شهور الحرب، دليل على عدم الارتباط بهذه الأرض من قريب أو بعيد
الأمر نفسه حدث في الجنوب اللبناني، حيث بادر الأشقاء هناك بالعودة إلى منازلهم، مع اقتراب حلول اليوم الـ60 لوقف القتال، اعتماداً على انتهاء المهلة التي حددتها اتفاقية وقف الحرب لانسحاب قوات الاحتلال، ولم ينتظروا حتى تنفيذ الانسحاب، أو الحصول على إذن داخلي أو خارجي، وهو ما قابلته قوات الكيان بالقصف العنيف، استشهد خلاله 22 شخصاً، وأصيب عشرات آخرون، تحت سمع وبصر العالم، خصوصاً الدول الضامنة للاتفاق، إلا أن هذه الأحداث كانت هي الأخرى بمثابة دليل واضح، على أن أصحاب الأرض، من الصعب إبعادهم عن وطنهم إلى ما لا نهاية، على عكس الجانب الآخر. المتابع لسلوك كيان الاحتلال عموماً، من سكان ومسؤولين ووسائل إعلام، سوف يتوقف أمام أمر غريب ومخيف في الوقت نفسه، هو ذلك المتعلق بالغضب والاستياء وذرف الدموع من قرار الانسحاب، سواءً من قطاع غزة، أو جنوب لبنان، على اعتبار أنه مادامت الآلة العسكرية استطاعت الاستيلاء على أرض -أي أرض- فيجب ألا تنسحب منها، وليذهب أصحاب الأرض إلى الجحيم، ما بين قتل وتهجير واعتقال، وهو سلوك يدلل على أن وجود ذلك الكيان في المنطقة، بهذه العقلية التوسعية، والتفوق العسكري، يمثل خطراً على كل دول الجوار، دون استثناء، وهو ما يجري الآن أيضاً في جبل الشيخ على الحدود السورية، الأمر الذي يؤكد أن السبيل الوحيد لمواجهة هذه النزعة الدموية التوسعية، هو المقاومة المسلحة، التي تتبناها الفصائل الفلسطينية والمقاومة اللبنانية طريقاً للتحرير. وفي كل الأحوال، يجب الوضع في الاعتبار، أن ذلك الهروب الصهيوني من الأرض يعد أمراً طبيعياً، كذلك أزمة التهرب من التجنيد، والفرار من جبهة القتال، ذلك أن الأمراض النفسية ستلازم الإسرائيليين، مجندين ومدنيين لسنوات طويلة، ناهيك من أن أعداد القتلى والإصابات بدأت تتكشف، بعد أن تحدثت وسائل الإعلام العالمية عن نحو 15 ألف قتيل و45 ألف جريح، إلى غير ذلك من كثير يؤكد أن البقاء في نهاية الأمر لأصحاب الأرض، رغم ارتفاع أعداد الشهداء والجرحى، ورغم الدمار الذي خلفته قنابل أمريكا، وذخائر ألمانيا، وقذائف فرنسا، وأقمار تجسس بريطانيا، وتخاذل دول الإقليم.
أما على الجانب الآخر، وفي الحالة الفلسطينية على سبيل المثال، نجد أن العائدين إلى شمال القطاع، يدركون جيدا أنه لم تعد هناك منازل، بعد أن دمرتها طائرات الاحتلال بأسلحة غربية وأمريكية، يدركون جيداً أنهم سوف يعيشون في العراء، دون أي مقومات للحياة، إلا أنها الأرض التي جعلتهم لا يتوقفون أمام العقبات، وقد بدا ذلك واضحاً في أحاديثهم خلال رحلة العودة، التي أكدوا خلالها ندمهم على مغادرة منازلهم، فما بالنا إذن بردود أفعالهم عندما يطلب منهم موتور من هنا، أو مخبول من هناك، الرحيل عن الوطن، لحسابات تنطلق من الاستقواء، فشلت جميعها مع الشعب الفلسطيني بشكل عام، على مدى 77 عاماً هي عمر الاحتلال، رغم ثغرات شابت المسيرة، لأسباب متفاوتة. ومن الطبيعي أن تطرح هذه الأحداث وغيرها كثير، تساؤلاً على قدر كبير من الأهمية هو: إلى أي مدى سوف يتحمل سكان الكيان المستعمرين هذه الحياة غير المستقرة، وهل يمكن استمرار ذلك الدعم الغربي الأمريكي إلى ما لا نهاية؟ ربما كان في رحلة العودة على هذا الجانب، ورحلة الهروب على الجانب الآخر، إجابة وافية على كل الأسئلة المتعلقة بهذا الشأن، إلا أنه بمتابعة مسارات التاريخ، وقراءة الواقع الحالي، يمكن التأكيد على أن العودة المؤكدة لشعب الاحتلال، هي التي سوف تتجه إلى خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، طال الوقت أم قصر، رغم الأطروحات الجنونية للرئيس الأمريكي نفسه.
وقد لا نبالغ، إذا اعتبرنا أن التوقيت الحالي هو الأنسب على الإطلاق، لطرح مبادرة شجاعة وواقعية، ولو من خلال ذلك التجمع الجديد المعلن عنه حديثاً تحت اسم (مجموعة لاهاي) المكون من تسع دول هي: (جنوب افريقيا، ماليزيا، كولومبيا، بوليفيا، كوبا، هندوراس، ناميبيا، السنغال، بليز) ليس بينها دولة واحدة عربية كما هو واضح، تحمل هذه المبادرة ما يمكن أن يشكل حلاً جذريا لمنطقة الشرق الأوسط، بل العالم أجمع، تتضمن عودة المستعمرين الإسرائيليين إلى بلدانهم الأصلية، التي نزحوا منها، حينما كانت هناك مشكلة تستدعي ذلك، واستقبلهم حينها الشعب الفلسطيني، بل بعض الشعوب العربية بالترحاب، انطلاقاً من دوافع إنسانية، وإما اختيار وطن آخر بديل، قد يكون جزيرة غرينلاند الدنماركية، أو ولاية كاليفورنيا الأمريكية، أو جمهورية ألمانيا، التي تعلن بشكل يومي حاجتها إلى مزيد من البشر، من أجل استمرار الحياة هناك.
وإذا اعتبرنا أن العرب غير مؤهلين لطرح مثل هذه المبادرات، لأسباب تتعلق بهشاشة أنظمة الحكم، التي تخشى غضب الصهيونية العالمية، فيمكنهم إذن الإيعاز لدول ذلك التجمع الجديد بتبني عملية الطرح هذه، التي سوف تجد صدى دولياً، شعبياً ورسمياً عالمياً منقطع النظير، يقطع الطريق على ذلك الطرح الهمجي العنصري، الذي يقسو على أصحاب الأرض، لمجرد أنهم لا يمتلكون السلاح الكافي لمواجهة المستعمر من جهة، وتخلي دول الجوار عنهم من جهة أخرى، رغم أواصر الدم والعرق والدين واللغة والتاريخ، وكل شيء تقريباً.
كاتب مصري
نقلا عن القدس العربي