سوريا لن تكون لقمة سائغة للاحتلال وأدواته

ادريس هاني

ما عاد يُجدي في سوريا اليوم الحديث عن نظام سابق، بل بات أهمّ من ذلك الحديث عن نظام آتي. والنظام السابق عرفنا شكله وسياسته وإمكاناته وحدوده، لكن ماذا عن النّظام الجديد؟ تلك هي المسألة. وكما أنّ الثّورة، في سوريا، وسوريا فقط، باتت غريبة في محتواها الاجتماعي والتّاريخي والسياسي، يوم تحوّلت إلى عمل مسلّح تقوده تنظيمات مشتقة من تنظيم القاعدة الأمّ بين ليلة وضحاها، في نقلة فلكية من احتجاجات اجتماعية مطلبية إلى انقلاب مسلح، شعاره الديمقراطية والتحرر وبرنامجه مسطور في إدارة التّوحّش، وكما قلت في مورد آخر، إنّها نقلة حيّرت حتى جين شارب، الأب الروحي للثورات الملوّنة، لأن هذا الأخير نصح بالتمرد السلمي وتجنّب عسكرة الثورة، قبل أن يفاجأ بعسكرة مدبرة تمتدّ من الزرقاوية إلى البغدادية إلى الفتوى الظواهرية، فكذلك تبدو الغرابة نفسها مع قيادة جديدة تدخل دمشق من دون مقاومة، وتحت الوصاية العثمانية المُحدثة. ما الذي حدث؟ وكيف حدث؟ أهو الغموض والغرابة التي واكبت الأحداث منذ البداية؟ ليس هذا موضوع حديثنا الآن، ولكننا سنتحدث عن المفارقة السياسية.
شغلت عبارة الشعب والحرية الخطاب اليومي لما يسمى الثوار، هذا بينما هناك من يسمي الحاكم الجديد بالفاتح. والفاتح عبارة أقرب إلى أيديولوجيا الحكام الجُدد، وهي أكثر قُربا من الميراث السلطاني العثماني. وحتى هنا الأمور في كامل الانسجام. وكذلك الحريّة، ثاني شعار تحمله هتافات الحكام الجدد. يمكن للإعلام المجند المتجاهل للصورة الحقيقية أن يهوّن من خطر نموذج إمارة النصرة بإدلب، هي تماما الحكومة النموذجية لسوريا الجديدة.
خلال 13 سنة من المعارك الضارية بين الجيش العربي السوري والفصائل المسلّحة، لم يتحدث الإعلام المضلل عن استهداف الجيش للمسلحين. كان الإعلام في كل معركة يتحدّث عن الشعب، مع أنها معارك كانت تدور في مناطق مهجورة وخالية من السكان الذين ما أن يدخلها المسلحون حتى يبدأ النزوح، كانت الحاجة ماسّة للمبالغة وتصوير المعركة كأنها بين الجيش والشعب، وهكذا تمّ إخفاء وجود أكثر من فصيل مسلح بمستوى جيش كامل الأركان.
الديكتاتورية التي باتت قصيدة مغنّاة في أروقة الثورة المجيدة، هي اليوم ديكتاتورية مزيدة ومنقّحة، في بلد متنوّع لكنه يواجه التطرّف وسياسة إلغاء الآخر. إنّ البديل لم يعد يُخفي نزعته الظّلامية، فالديمقراطية لا تعني تشذيب اللِّحى ووضع ربطة عنق، إن نتائج الاختبار الأوّل كانت واضحة، لقد سقط النظام وتمزق النسيج الاجتماعي. أمّا الأرض فقد باتت تتكلم تطرّفا بصورة رسمية، مشروع سياسي لا ينتمي إلى العصر الحديث، لكنه يحمل شراسة الإنكشارية: قمع وثأر وخطاب يتهدد النسيج الاجتماعي. لم يكن في سوريا أحد يسأل عن دين الآخر وانتمائه العرقي أو الطائفي، لقد كانت سوريا مثالا كبيرا للقبول بالآخر. اليوم أصبح الانتماء لسوريا لا يكفي السائل، يسألني شاب من الرّقة: أنت من أين
– من كذا
– سنّي؟
– بلدي سني
– يعني سني، سنّي؟
كنت على وشك أن أجيبه أنا علوي كي أستخرج توحّشه، لأرى أين يصل غلوّه، لكن فضلت أن أوحي له بأنني من بلد سنّي، هكذا تقيّأ كل ما تعلمه في مدارس النصرة بالرّقة. لقد أشفقت من حال شاب لما بدأ الخراب كان سنه يقارب 10 سنوات تقريبا، لقد شحنوه بما يكفي من الجهل، إنّه لا يسأل عن وطن بل يسأل عن طائفة، لقد سقطت فكرة العيش المشترك، فكان هذا الحوار بيني وبين شاب مغرر به حدّ الثمالة:
– أنت سنّي
– أنا من بلد سنّي
– أنا من الرقة، الحمد لله انتصرنا..كنا نعيش في جاهلية..الآن هؤلاء العلمانيون يحاربوننا..
– يبدو أن هناك فوضى ومسلحين..
– لا نحن نعرفهم..من خيرة الأوادم..هؤلاء الذين تتحدث عنهم أقليات ليسوا سوريين..
– طيب ألا تخشوا من إسرائيل..
– لا عمو. إسرائيل كما عندنا في السنة انها هالكة في آخر الزمان…
– طيب، لازم أن يوجد من يقاومها، وإلا كيف ستسقط؟
– لا هي ستنتهي في اخر الزمان..
– كيف؟
– نعم هيك..
إنّهم في عجلة من إسقاط دولة، ولكن تحرير الأرض من المحتل تركوه لآخر الزّمان، ومع ذلك يتقوّلون على من خاض معركة تشرين المجيدة. لأوّل مرّة أسمع عن ثورة من دون مشروع اجتماعي دولتي، ولأول مرة أسمع عن حرية بمزيد من القمع وإلغاء الآخر. نتحدث عن صدنايا، بينما كل فصيل له سجن يشبه سجن أبي غريب. عدد من يتم تصفيتهم في الشوارع اليوم لم تعرف له سوريا مثيلا من قبل. ومع ذلك يستمرّ الهُتاف.
فُرضت العقوبات على سوريا منذ قانون محاسبة سوريا حتى قانون قيصر، وذلك بسبب عصيان بشّار الأسد لأوامر الغرب. وكانت المفارقة أنّ تلك العقوبات زكّتها مخرجات مؤتمرات أصدقا الشعب السوري. اليوم غادر بشّار الأسد وانحلّ الجيش، لكن العقوبات لا زالت مفروضة على الشعب السوري من قبل أصدقاءالشعبالسوري، وهي معلقة على حجم الابتزاز واختبار الشعب، لكن الشعب هو اليوم غير قادر أن يعبر عن إرادته، هناك النصرة التي أريد لها أن تكون ممثلا مفروضا للشعب السوري، وهذا ما كان. إنها سخرية القدر السياسي، أنّ الحرية والخلاص تحقق بفضل الفاتح ليدخل القصر الجمهوري، ويفرض نموذج إمارة إدلب بمؤازرة بزنطية ومباركة هيرتزل. انسحب الأسد، فماذا يريدون من الشعب السوري إذن؟ إنّهم يفاوضونه على مكتسباته من القوة والسيادة، إنّهم أصدقاء وحلفاء لأعداء الشعب السوري ودولته.
ومع ذلك يمكننا الحديث عن سيناريوهات عامّة. فإنّ مصير هذه الطبخة يتجه إلى الباب المسدود. لا يوجد رابح- رابح حتى بين المؤتلفين. فأمّا سوريا جديدة قادرة منيعة ذات سيادة، فلن تكون خيار لإسراا.ئيل التي تحتل الجنوب ولا خيارا تركيا التي تحتل الشمال ولا خيار لنّاتو الذي يشرف على الطبخة. فلقد كانت الغاية منذ عقود هو إضعاف سوريا بالنسبة للجار الشمالي وبالنسبة للاحتلال بالجنوب. وأمّا دول الخليج فهي غير متوافقة على أجندة مشتركة. صراع آخر بين محور السعودية-الإمارات، ومحور قطر-تركيا. تداعيات الوضع السوري على لبنان يعقِّد المشهد، وهنا سبقت الرياض إلى بيروت حيث المؤشّر واضح، استعجال اختيار الرئيس الجديد جوزيف عون، الاستعجال نفسه كمؤشّر على استباق الرياض لتداعيات الوضع وقطع الطريق على المحور المذكور. أمام هذا التنافس الإقليمي قد تتغيّر طبيعة الأحلاف. بل سيحتدم تناقض آخر بين تركيا وإسرائيل وواشنطن، حول الكعكة. فقسد لن تكون هي الثّمن. إنّ خروج الإيراني من سوريا فسح المجال لصراع حول النفوذ لا نستبعد تطوره إلى اشتباك كبير، على الأقل بين أدوات الصراع. اليوم شخصت الهيئة عدّوها فيما تسميه بفلول النظام القديم، وقسد، وداعش. وهي تُمالئ واشنطن من خلال رسائل تطمين بأنّ لا عدوّ للهيئة غير هؤلاء.
ومع ذلك، لن يكون التقسيم سلسا لاعتبارات كثيرة، منها أنّه من المبكر الحديث عن سوريا كما لو أنّها لقمة سائغة. لقد دمر الاحتلال مخازن السلاح الاستراتيجي، لكن أين هو السلاح الذي بقي حوزة بقايا الجيش الذي يستعد بمعية القوى الشعبية لخوض مقاومة بعيدة المدى. قد تكون سوريا بلا دولة ساحة مقاومة متحررة من كل التزامات الدولة. ولكن من ناحية أخرى فالتقسيم مستحيل، حيث واضح تماما أنّ ما يسمى الأغلبية في سوريا بالمعنى الطائفي لن يكون أكثر حظّا من الناحية الطوبوغرافية. فالدولة الكردية المفترضة ستضع يدها على النفط، والدولة العلوية ستضع يدها على الموانئ، والدولة الدرزية على الحدود مع الاحتلال، وتبقى الدولة السنية بلا نفط وبلا موانئ. لقد كنا إزاء لعبة جيوسياسية خاسرة، وستكون الحدود حارقة. إسقاط سوريا ليس نزهة، بل بوابة الشّر.
إننا أمام وضع انتقالي، وهو تسليم السلطة للاحتلال. لقد سقطت الدولة السورية وليس الرئيس، وذلك بفعل مؤامرة دولية ومخطط استمر ثلاث سنوات، استعجل تنزيله لحظة انشغال حلفاء سوريا الأساسيين بعملية الإسناد لغزّة. كان هناك تناغم، هو من سمح لقادة الاحتلال بالقول أنّهم مسؤولون عن إسقاط سوريا.
يستمد حكام سوريا الجدد شرعيتهم من وصية الظواهري للجولاني كوليّ جهاد على بلاد الشّام، حيث بموجب تلك الوصية المعلنة قامت النصرة. يكتب رئيس شعبة الاستخبارات السورية الجديد أنس خطاب كتابا قبل سنوات تحت عنوان: تحالف عباد الصليب ضدّ مجاهدي الشّام. وفيه يؤكد على أنّ التحالف يستغلّ أخطاء داعش والإخوان لشن حرب ضروس على مجاهدي الشام، يقصد جماعة الهيئة. يمكننا فهم طبيعة الخضوع اللاّفت للانتباه لقادة الهيئة لقرارات الناتو. الكتاب إياه يعطينا صورة عن سوريا في ذهن حكام دمشق الجدد، هنا حيث يتعرض المسيحيون في سوريا للإهانة والإرهاب في الفترة المسماة انتقالية، وهي مرحلة لزرع قادة النّصرة داخل بنية الدولة العميقة المُقبلة، وهي المرحلة الأخطر في تاريخ النظم السياسية في حالة انتقالية، وهي لهذا السبب قلبت كل الأولويات التي تسبق الانتقال الديمقراطي، حيث باشرت في تغيير القوانين ونظام التعليم، وهي مهام الدولة المنتخبة وليس حكومة تصريف أعمال. لهذا السبب توسل قادة النصرة في الهيئة أسلوبا انتهازيا مع قوى الاحتلال الجديدة والديبلوماسيين الغربيين مقابل زرع رجالاتهم في الدولة وإحكام السيطرة على الشعب والمؤسسات.
وحتى الآن لم يتم الإعلان عن عفو عام ولا فتح سجن إدلب وتعزيز حرية التعبير. فنظام الحسبة لدى داعش لا زال يُنفّذ خارج أسوار دمشق، في سائر المحافظات التي تبدو عارية أمام البطش التكفيري.
لقد بات واضحا من هم أصحاب الحقائب الوزارية في حكومة النصرة التي جعلها الإعلام الموجه بمثابة المنقذ من الضلال والاستبداد. فلقد ظهر وزير العدل الجديد قبل سنوات وهو يقيم الحد على امرأة في الشارع بتهمة الفساد، بينما فقه الجنايات الشرعية نفسه لا يسمح بتنفيذ الحدود في شروط ملتبسة وغير مستقرة، فضلا عن غياب الدولة. كما سبق وظهر وزير الدفاع الجديد قبل سنوات قليلة وهو يمسك بتمثال للسيدة العذراء ويكسره في استهداف للمكون المسيحي. لقد كانت لهم سابقة في العراق قتلا وتخريبا ومع ذلك وضعهم المخطط الدولي على رأس قيادة سوريا الجديدة لتأمين الطريق نحو شرق أوسط جديد، تكون سوريا فيه بمثابة زائدة دودية في جسد أمبراطوري كاسح للمنطقة يسعى الاحتلال اليوم لتحقيقه، وهو في كلّ هذه المعادلة يبدو الرّابح الأوفر حظّا.
لكن ماذا بعد؟
إنّ الأخطاء التي تفرض نفسها في قلب هذه التناقضات التي تتطور بشكل يومي بين المتنافسين على الكعكة، ستدفع باتجاه اشتعال المنطقة. إنّ الإخوان اليوم ومن خلفهم يهلّلون لما يسمونه الثورة والتحرير، لكنهم هم أنفسه خاسرون، وسيخسرون أكثر مع استفحال تناقضات الوضع. فخصومهم أيضا يمسكون بزمام الفصائل الأكثر شراسة ضد الإخوان. هذا بينما تبخّر شيء إسمه الإئتلافات الوطنية، لا نسمع اليوم هسيسا داخل الشام لعبد العظيم، لبرهان غليون، لهيثم المالح، كمال اللبواني، لهيثم مناع، …دمشق اليوم هي لتنظيم النصرة الذي يرسم ملامح سوريا الجديدة، ضمن أفق تورابورا.
يبقى لدي تساؤل: أين هو برنار هنري ليفي؟ متى سيخطب في ساحة الأمويين؟ هل ينتظر دورا؟ وكيف سيجمع بين تهنئة هيئة تحرير الشام وتهنئة قسد؟ إنّها سوريا في وضعية تناقضية، وهذا ما يعني أنّها لن تكون لقمة سائغة. قريبا ستهتزّ الأرض من تحت أقدام المحتلّ و”الفاتح”، هل نسي هؤلاء ثورة سلطان باشا الأطرش وإبراهيم هنانو ويوسف العظمة؟؟

نقلا عن رأي اليوم 

جمعة, 10/01/2025 - 15:14