تعيش المنظومة الحزبية في موريتانيا منذ بداية المسلسل الديموقراطي أزمة بنيوية جعلت العمل الحزبي هزيلا تطغى عليه الشخصانية وغير قادر على مواجهة التأثيرات الإجتماعية مثل النفوذ القبلي والجهوي والعرقي.
أزمة في حقيقتها ترتبط بنشاة الأحزاب ومسارها وسلوكها وعليه فإن كل ما نشاهده اليوم من تراجع شعبي لهذه الأحزاب وغياب للبعد الديمقراطي في تدبير شؤونها والخروج عن القواعد الدستورية الواضحة بخصوص احترام وحدة البلد وتماسكه الاجتماعي ووحدته الوطنية هو تحصيل حاصل ونتيجة طبيعية لبداية غير سليمة فكما يقال "شرط النهاية تصحيح البداية".
فقد تراجع عدد الأحزاب السياسية في البلاد من 120حزبا قبل انتخابات 2018 البلدية والنيابية الى 19 حزبا بعد انتخابات 2023 البلدية والنيابية.
فالحزب لم يكن في الواقع إلا نسخة ورقية يتم إعدادها بين مجموعة اشخاص لا تتجاوز اصابع اليد ووفقا لنظام أساسي وداخلي يكاد يكون متطابقا بين غالبية الأحزاب ويتم ترخيصه وفق شروط بعيدة عن منطق تشكيل الأحزاب اما بترضية لطرف سياسي معين أو ضرب آخر او محاباة.
ورغم التعديلات التي عرفها قانون الأحزاب في 2018 لكنها في الغالب ظلت شكلية ولم تعالج في الواقع البنية المؤسسية للحزب ولا مكامن الخلل التي شوهت العمل الحزبي والسياسي بشكل عام وجعلت من الحزب وسيلة للتكسب وفترة الانتخابات مزادا علنيا يتبارى فيه اصحاب المال للحصول على بطاقة الترشح دون جهد سياسي.
لقد جاء القانون الحالي لمعالجة تلك الاختلالات استهلالا بنشأة الحزب ومرورا بسلوكه السياسي ومساره وانتهاء بانتظام عمله واستمراريته وفقا لرؤية جادة وصارمة تنطلق من الشعبية الحقيقية وليس الوهمية كأساس لبناء الشرعية مع الحرص على أن يكون الحزب في سلوكه ومساره مدرسة لتكريس الوحدة الوطنية ومواجهة خطاب التفرقة والفتنة والعنصرية فلا حزب سياسي بعد اليوم على اساس فئوي او عرقي او قبلي ولا ديني. والتركيز على إشراك الطاقات الشبابية والنسائية المتعلمة وتمكينها من المساهمة في العمل السياسي.
ان تطبيق هذا القانون كفيل ببناء احزاب وطنية تمتد على عموم التراب الوطني لا جهويا ولا مناطقيا ولا عرقيا تتلاقى فيها كافة ابناء الوطن ضمن مشاريع مجتمعة تقوم على التمسك بمقتضيات الوحدة الوطنية واحترام مقدسات الأمة وثوابتها وتترك هامشا واسعا للاختلاف والتباين وفقا لرؤى وبرامج من منطلقات داخلية دون املاءات أو توجيهات خارجية مدفوعة الثمن.
سيضع هذا القانون حدودا فاصلة بين العمل الحزبي الجاد وتجارة الأحزاب فليس كل من يملك مالا باستطاعته تشكيل حزب وتوجيه إرادة المواطنين باتجاه مخالف لما يجب وينبغي لتتشكل بذلك رؤية ضبابية في الوقت الذي نحن بحاجة إلى وضوح الرؤية والهدف. وهذا لن يتم إلا من خلال إطار قانوني محكم للأحزاب السياسية ومنسجم مع الدستور.
سيكون أمام السياسيين الجادين فرصة غير مسبوقة لتحصين الحقل السياسي من الانتهازيين الشعوبيين والنفعيين الذين باتوا خطرا ليس على العمل السياسي فحسب بل على سير النظام العام واستقرار الوطن، انها فرصة لحشر هؤلاء في الزاوية وازاحتهم الى حيث يجب أن يكونوا .
لقد بدأ ضجيجهم وصخبهم منذ الإعلان عن المصادقة على القانون فقرروا أن يضعوه في سياق آخر خدمة لأهدافهم وتوجهاتهم وتوجهات مشغليهم لكن سفينة الإصلاح ماضية في رسم معالم بنية حزبية سليمة لمن يريد الخير بالبلد اما المتلونون فلا وجهة لهم.