هل وصلنا للمجتمع الجماهيري؟/د.الشيخ يب عليات

تشهد موريتانيا اليوم تحولات عميقة في بنياتها الاجتماعية والثقافية بشكل غير مسبوق، تتجلى من خلال بروز خطابات دينية جديدة، وهويات فرعية متشنجة أحيانا، إضافة إلى ظهور أنماط جديدة في معاملة وسلوك الفرد الموريتاني... إلى غير ذلك من التغيرات الأخرى التي حدثت في المجتمع، حتى في طقوس وعادات المناسبات الاجتماعية.

 

وأصبحت مظاهر هذه التحولات تتجلى بشكل يومي عبرالواقع وفي الوسائط الاجتماعية، التي قد يعترضك أثناء تصفحك لها مثلا: صورا لشباب موريتانيين يرتدون ملابس غير مألوفة محليا. وقد تصادفك فيها أيضا، أغاني لم يعتد الشعب الموريتاني على مشاهدة أو سماع مثلها،أو قصصا عن جرائم: الغش، التحايل، الاغتصاب وحتى القتل، كما قد تقرأُ فيها منشورا عن طفل حديث الولادة مرمي في الشارع، تماما كما قد تشاهد، مقطعا لطقوس طريقة صوفية جديدة، كما برز ذلك في الآونة الأخيرة.

هذه الأمثلة وغيرها، استدعتني للتأمل والغوص في التغيرات الثقافية التي عرفها المجتمع الموريتاني في العقود الأخيرة.

يقسم عالم الاجتماع الألماني فرديناند تونيس المجتمعات تاريخيا إلى نمطين هما:
أولا: المجتمع التراحمي المرتب فئويا ويمتاز باعتماده على الصلاة التقليدية والروابط السلالية النسبية وتقوى في هذا النوع من المجتمعات قبضة الدين والتقاليد والأعراف الموروثة عن الأجداد وتضعف فيه أهمية الفرد حتى يصبح مجرد عون اجتماعي يخضع للمجموعة ويسير بقواعدها.

ثانيا: المجتمع التعاقدي الفرداني: ويمتاز بأهمية دور الفرد فيه وتقلص العلاقات القديمة وضعف أهميتها ويتصف هذا النوع من المجتمعات بعقلنة أفراده وسعيهم وراء مصالحهم الشخصية وظهور الأسر النووية المصغرة.

وقد ظلَ المجتمع الموريتاني إلى حد قريب يعيش أو ينتمي إلى الصنف الأول من المجتمعات، بيد أنه المجتمع عرف في السنوات الأخيرة تحولات وتغيرات كبيرة في تصوراته وعقلياته وسلوكه، وأصبح يتدرج شيئا فشيئا إلى الصنف الثاني من المجتمعات، وعموما يمكننا أن نرصد أهم التحولات الثقافية الجارية في المجتمع الموريتاني، في النقاط التالية:

1 ــ الانتقال من العائلة الموسعة إلى العائلة النوويَة: من المعرف أن المجتمع الموريتاني كان إلى حد قريب مجتمع بدوي ورحَال، يقطن حيث يوجد المراعي والكلأ، وكان تكثر فيه العصائب والقبائل حيث تكون القبيلة عبارة عن أسرة واحدة، غير أن التطورات والتحولات التي حدثت فرضت عليه أنماط أخرى من الحياة حيث شهد هذا المجتمع نزوح كبير من الريف إلى المدينة، ونتيجة لذلك طرأت تحولات كبيرة في تركيبة الأسر، حيث انتقلت من تركيبتها الديمغرافية الموسعة التي كانت تجمع عددا كبيرا من العائلات "القبيلة" إلى الأسرة النووية أي التنظيم الأسري القائم أساسا على زوجين وأبناء.
إن هذه السمة أصبحت تتميز بخصائص وتعتمد على نمط عيش يختلف تماما عمَا كانت تعيشه الأسرة الموسعة في إطار المجتمع التقليدي.

من هنا حدثت تغيرات وتحولات جلية وواضحة على مستوى العلاقات بين الأسر الموريتانية أبرز مظاهرها تقلص التمييز الذي كان يفصل بين الذكر عن الأنثى، فبعد أن كانت أغلب الأسر الموريتانية لا يولي عناية هامة للبنت إلاَ من زاوية إعداد الزواج وإدارة شؤون المنزل، في حين كانت تحرص الأسرة على تعليم الولد بل يصل بها الحد في الكثير من الأحيان إلى إرساله خارج القبيلة والقرية من أجل التعليم، هذا بالإضافة إلى إعداده للحياة العملية، أصبح اليوم تعليم البنت لا يقل أهمية عن تعليم الولد بل وصل به الأمر إلى أن أصبحت تتغرب خارج بلدها من أجل تحصيل العلم، في حين كان لا يسمح لها حتى الخروج من دار أسرتها.
انطلاقا ممَا تقدم يمكن اعتبار الاستقلالية النسبية للأسرة النووية عن العائلة الموسعة أي القبيلة من أهم التحولات الثقافية التي شهدها المجتمع الموريتاني. فخلافا للنمط التقليدي الذي كان يسيطر على الحياة الاجتماعية وهو خضوع الأسرة الجديدة لتقاليد وأعراف القبيلة. وذلك بتدخل الأقارب وخاصة كبار السن وخصوصا من النساء في حياة الأسر الجديدة مثل كيفية تسيير شؤون المنزل وتربية الأطفال والعلاقات الزوجية... إلخ، فإن الأسرة الموريتانية اليوم أصبحت في استقلالية شبه تامة عن القبيلة وتدبر شؤونها بنفسها.

2 ــ من أبرز التحولات الاجتماعية التي عرفها المجتمع الموريتاني هو الانتقال من نمط العيش القائم على الاقتصاد التقليدي "القطاع الأول" والمتمثل أساسا في الزراعة والتنمية الحيوانية... إلى اقتصاد اكتفاء ذاتي حديث يقوم على الخدمات والقطاع الثالث.
3 ـ التغير في أشكال التدين وأنواعه: من أبرز مظاهر التغيير الثقافي التي شهدتها موريتانيا هو التغيير في أشكال التدين، إننا لا نبالغ حينما نعتبر أن الدين كان يشكل العمود الفقري للعلاقات داخل المجتمع الموريتاني وأساس التنظيم والتفاضل والتقييم. فالمجتمع الموريتاني كان إلى حد قريب في أغلب الأحيان والحالات مجتمعا قبليا تحكمه الأطر التقليدية والتقاليد ويحتل الدين فيه مركزا بالغ الأهمية.

إلاَ أنه ومنذ السنوات الأخيرة كثرت الحركات الإسلامية فيه وطرق التدين، فظهر الإسلامي الحركي بدل الإسلامي الصوفي الذي كان معتمدا، كما يمكن ملاحظة تباين واختلافات منابر المساجد، حتى مثلا في منح الزكاة فلم تعد تمنح للأشخاص بل أصبحت في الكثير من الأحيان تمنح للجمعيات الخيرية.... إلخ.

بل ذهب التغير الثقافي في أشكال التدين إلى أبعد من ذلك، حتى وصل بالبعض إلى المطالبة "بعقلنة" العقل الموريتاني والمطالبة بتبني فكرة العلمانية وهي الفكرة التي كانت إلى حد قريب يعتبرها علماء البلد أنها منافية للدين وأنها ضد الإسلام. كما أنها حسب رأيهم محاولة لقتل الدين في المجتمع الموريتاني، ومحاولة لتشجيع الانحلال الأخلاقي والتفكك الأسري وتكسير القيم والعادات الاجتماعية الموريتانية.

4 ـ تغير في أشكال الملابس والسلوك: حيث عرف المجتمع الموريتاني الكثير من التغيرات على هذه المستويات، حيث أصبحت هناك حرية كاملة في اختيار نوع الملابس ولونها، هذا بدل للباس التقليدي الذي كان سائدا "الدراعة" بالنسبة للرجل و"الملحفة " بالنسبة للمرأة، حيث أن المجتمع كان يعتبر أنَ من تخلى عنها شخص غير مرغوب فيه، فتغيرت تلك النظرة حتى أصبح المجتمع يواكب الموضة العالمية في الملابس والتي من أخر ما هو منتشر منها "السراويل المتقطعة".... إلخ.

أما بالنسبة للتغير في السلوك فيمكن ملاحظته من خلال النقاشات والحوارات التي تحدث بشكل يومي مثل دخول عبارات جديدة غربية على اللهجة المحلية، والاهتمام الزائد بالسينما والأحداث الرياضية وغيرها.

من هنا، يمكننا القول إن المجتمع الموريتاني حدثت فيه الكثير من التغيرات الثقافية سواء كان ذلك علة مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع، وأصبح يتجه نحو المجتمع الجماهيري الذي يمتاز بأهمية دور الفرد فيه وتقلص العلاقات القديمة وضعف أهميتها ويتصف هذا النوع من المجتمعات بعقلنة أفراده وسعيهم وراء مصالحهم الشخصية وظهور الأسر النووية المصغرة.  

سبت, 17/02/2024 - 21:01