الماءُ ماؤنا والقرار قرارنا..

 طارق ليساوي

في مطلع هذا المقال أعتذر للقراء الأفاضل على هذا الغياب المؤقت ، و الواقع أن الغياب راجع لعاملين ، أحدهما نفسي أو مزاجي و الثاني أكاديمي  ، فأما النفسي شعور بالحزن و الأسى لما يحدث في غزة من إجرام في حق شعب غزة ، و لا ننسى إنتهاكات الصهاينة المستمرة في الضفة الغربية .. و أما الأكاديمي  إنشغالي بإعداد مشروع بحثي سبق لي أن أعلنت عنه في هذا المنبر ، و أعني ” المجتمع الزكوي كبديل عن المجتمع الربوي” و عما قريب إن شاء الله سيرى هذا المولود الجديد النور  في “خماسية” تضم خمسة كتب تحاول وضع خارطة طريق لنموذج تنموي بديل مستمد من ثوابت الإسلام و ينطلق في تحليله من محنة فيروس كورونا المستجد أو “كوفيد 19” و متحوراته ..
و هدفنا من ذلك، الدعوة لمشروع نهضوي ينطلق من روح ووحي الإسلام، لإعادة التوازن للمتغيرات الاقتصادية و الاجتماعية الكلية، و قد أطلقنا على هذا المشروع النهضوي – الحضاري ” المجتمع الزكوي كبديل عن المجتمع الربوي”، فالزكاة أحد أهم الأدوات المالية لتنفيذ و تنزيل أهداف و مقاصد النظام السوسيو-إقتصادي في الإسلام ، و هي الحد الفاصل بين الاقتصاد الربوي الاستعبادي و الاقتصاد الزكوي التراحمي..
و بالعودة إلى صلب مقال اليوم ، فاليوم تحل الذكرى السنوية الثانية لرحيل الطفل ريان ، و كانت لنا بالمناسبة عدة مقالات بهذا الشأن ، سواءا حين وقوع الحدث الأليم أو بعد مرور أسابيع و شهور على خبر الرحيل المفجع للطفل الذي وحد ” أمة العالمين ” على حد قول المغاربة ..
و ما دمت المناسبة شرط ، فإن جفاف السنوات الست الماضية ، تعيد إلى ذاكرتنا جفاف بئر ريان ، و العديد من الأبار و الوديان و العيون التي أمسكت ماءها و أحزنت الكثير من روادها و زبناءها بلغة التجارة و الأسواق..
وبهذه المناسبة نحيي عاليا كثير من الخبراء و العلماء و الأكاديمين و بعض السياسيين الذين نبهونا مبكرا لخطر نذرة الماء و خطر ظهور نزاعات إقليمية دولية محورها الثروة المائية و السيادة المائية ..
والماء شأنه شأن باقي الثروات الطبيعية و إن كان أعظمهم شأنا و حيوية مصداق لقوله تعالى : ( و جعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) (الأنبياء -30) ، لكن ذلك لا يمنع  أن جل الثروات الطبيعية منذ بداية الثورة الصناعية شهدت استنزافا غير مسبوق و استغلال غير مسؤول أفسد الحرث و النسل ..
ولقد أشرت في كتابي ” النموذج التنموي المنشود بين الاقتصاد و السياسة” إلى معضلة التنمية المستدامة و المتوازنة و الخادمة للأبعاد الإنسانية محذرا من كل أشكال التنمية المعاقة .. فأي نموذج تنموي يفضي إلى تدمير الإنسان او فطرته أو يقود إلى تدمير الأرض و تهديد غلافها و استقرارها الأني و المستقبلي ، حتى و إن أثمر على المدى القصير تحسين مؤشرات العيش، فإنه يعد نموذجا مضللا و مسكنا للألآم لا غير، نموذج ترقيعي محدود الأفق و مضر بمستقبل الإنسان و سلامته و استقراره..
لذلك، فإن الباحثين اليوم عن نموذج تنموي مغاير للنماذج السائدة شرقا و غربا، يجب أن يضعوا في مقدمة اهتماماتهم البعد الحضاري و العمراني – الإستخلافي، ليكون بديلا عن ما أنتجته و توقفت عنده الثورات البشرية السابقة و خاصة ” الثورة الصناعية” ..
فالثورة الصناعية تم النظر إليها حينئذ و إلى يومنا هذا ،كفتح مبين و اكتشاف عظيم لم تحلم البشرية يوما بدخوله، عصر سالت بحديثه الأقلام و أذهلت العقول و تسمرت الأقدام..
ورغم الأثار السلبية لهذه الثورة التي ألحقت بالإنسان و البيئة أضرار بالغة الخطورة، بل و أضرت بالبناء و النسيج المجتمعي ، وفككت إستقراره من خلال تسليع الإنسان و اعتباره أداة من أدوات الإنتاج لا أقل و لا أكثر، ووسيلة لتصريف المنتجات و مضاعفتها ، ومع ذلك هناك عملية تجميل و تضليل متواصلة و مستمرة للثورة الصناعية و ما تبعها من ثورات تكنولوجية و رقمية و غيرها ..
أن الأوان أن نطرح تساؤلات فكرية و ثقافية حول أسس هذه الثورة الصناعية و توابعها من ثورات ، و التي انتهت على أنسنه الألة و مكننة الإنسان، فأصبح الإنسان ينافس الألة للإحتفاظ بمكانه كقوة إنتاج و يخشى أن تطرده الألة من “جنة الأرض “..
فالأرض التي جعلها الله تعالى مكانا لإستخلاف الإنسان و أودع فيها معاشه تصديقا لقوله تعالى في محكم كتابه : ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾[ الأعراف: 10]..فهذه الأرض صارت اليوم مهددة باستعمار الألة و تحييد الإنسان جانبا، و التفضل عليه بالفتات  و لما لا العمل على تحييد الفائض البشري و إنقاصه عبر الأوبئة و الحروب و تغيير الفطرة و نشر الشذوذ …
فالتنمية المتبعة و القائمة على الريع بالدرجة الأولى ، أي استنزاف الثروات الطبيعية و إهداءها على شكل امتيازات و رخص لوجوه سياسية و مالية بعينها، فحين تطرق مسامعنا أخبار تفويت عيون جارية لشخصيات معروفة بنهمها و شجعها و ميلها الفطري للإستحواذ و الاحتكار، و تصدير ما لا يعقل تصديره، فالكثير من الثروات المائية يتم  تعليبها و تصديرها في شكل قارورات بلاستيكية، أو في شكل منتجات فلاحية مستهلكة للماء بوفرة شديدة..
إننا لا نريد في هذه السطور إعادة محاكمة نموذج تنموي أعلن إفلاسه و فشله من طرف العامة و الخاصة، و لكن ما يؤرقنا أن تحمل الطبقات الشعبية و البسطاء من الناس مسؤولية هذا الوضع القاسي ، الذي يعود بالدرجة الأولى إلى قساوة القلوب و جفاف الضمائر و بيع و شراء الذمم التي تروج لأطروحات و مبررات مغلوطة من قبيل أن الذنوب و المعاصي هي التي تقف وراء جفاف الأرض و السماء ، و إن كان لهذا الجانب جزء من المسؤولية مصداقا لقوله تعالى في محكم كتابه :(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الروم/41 ..وقوله تعالى : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) الجن/16 .وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الأعراف/ 96 .
و في السنة النبوية الشريفة وردت أحاديث صحيحة تصب في هذا المعنى و من ذلك الحديث الشريف : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ : أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : (يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ :
لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا ..وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ .وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ ، وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا .وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ .وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ) . إبن ماجه)
لكن أن نضع كامل المسؤولية على كاهل الرعية ففي ذلك مجانبة للصواب و للمنطق السليم ، ف”الناس على دين رعاتهم”، بمعنى إن صلح الرعاة صلحت الرعية أخلاقيا و تدبيريا، و إن كان موضوع حديثنا لن ينفك عن موضوع سوء التدبير ، أما سوء الأخلاق فذلك أمره عند الله سبحانه و تعالى..
و الله سبحانه و تعالى –كما هو معلوم- “ينصر الأمة العادلة و لو كانت كافرة”، و بهذه المقولة نقفل قوس هذه الأطروحة المضللة التي تقول أن “كفر الرعية و فسادها تعود إليه كل أسباب الجفاف و الفقر و القحط” ، و لكن عين الحقيقة تقول أن السبب الرئيس هو الظلم بكل أشكاله، أي أننا لسنا بالأمة العادلة..!!
لقد كانت قرية الطفل ريان رحمه الله ، قرية مظلومة و لم تكن بالقرية الظالمة، و كدى قرى الحوز التي ابتليت بالزلزال مؤخرا ، كانت وفقا لميكانزمات النموذج التنموي القائم، قرى مظلومة و لم تكن بالقرى الظالمة…و لكن السياسات المتبعة و خاصة العالم القروي هي المسؤولة عن الأزمة ، و من ذلك نهب و سوء تدبير موارد صندوق هذا العالم القروي، و خروجه عن مراقبة رئاسة الحكومة منذ زمن عبد الإله بن كيران، و جعله خارج المراقبة المالية الدقيقة ، شأنه شأن كثير من الصناديق الاجتماعية الأخرى، كصندوق المقاصة و صندوق التقاعد و صندوق الضمان الاجتماعي ، فهذه الصناديق هي المسؤولة عن توسيع خيارات الناس و رفع الظلم الاجتماعي عنهم ..لكن أموال هذه الصناديق تسربت لجيوب القلة و يكفي العودة لتقارير المجلس الأعلى للحسابات و بعض القضايا المعروضة أمام أنظار المحاكم المالية ..
هذا إلى جانب تفويت قطاعات حيوية كالماء لشركات أجنبية ، إلى أن وصل الحال بخروج نساء ” فكيك” بأقصى شرق المملكة بزيهم المغربي الأصيل “الحايك” إحتجاجا على تفويت قطاع الماء للشركات الخاصة مرددين شعار :” الماء ماءنا و القرار قرارنا” و هذا الشعار الموجز سنجعله عنوانا لهذه الكلمة المقتضبة ، و لنا عودة للموضوع في مقال موالي إن شاء الله تعالى .. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..

نقلا عن رأي اليوم 

خميس, 08/02/2024 - 13:04