ساعات قبل بدأ المهرجان الذي يختتم حملة الاستفتاء لتعديل الدستور، صعد أحد نواب البرلمان ودبج خطابا ناريا، أشاد فيه بانجازات الرئيس وطالب بمأمورية ثالثة، وصال وجال حتى قلنا ليته سكت..
ولكن، لنعد قليلا الى الوراء..
كنت أقف مع أحد اصدقاء الطفولة، صديقي تغير، صار من كبار رجال الاعمال المتخصصين في التشبيك، طلب مني مرافقته واستطعنا الوقوف عند السلم اسفل المنصة، سألته لماذا هنا بالضبط، قال لي إن الرئيس سيمر من هنا وهذا هو المكان الاستراتيجي الأمثل لنيل شرف مصافحته.
فجأة جاء عنصران من بازيب، أشار أحدهما علينا بالابتعاد، خاطبه صديقي باسمه "فلان ذاك أنا، بغايتي فيك". نظر الظابط صوبه شرزا، ولكن ذلك لم يمنع صديقي من وضع يده على كتفه قبل سحبه جانبا، شاهدته يلف شيئا في جيبه قبل أن يبتعد.
رجع صديقي قائلا "أعطيتو يطيرو 100.000 ياك يعطينا العافية". سألته إذا كان هذا سعر تذكرة واحدة أو اثنتين، لأنني شخصيا لست مستعدا لدفع مبلغ كهذا. قبل أن يجيب توقفت سيارة نيسان V8 رباعية الدفع بجانبنا ونزل منها الرئيس، صافحه صديقي. تراجعت خوفا من أن يتبعني ضابط الحرس الرئاسي مطالبا بسعر المصافحة ولكن الرئيس عرفني ومد يده نحوي. سبق وأن استقبلني في مكتبه مرة او اثنتين..
في طريق الخروج شاهدت سيارة فارهة يقودها شخص متلثم. صديقي الذي يحفظ عن ظهر قلب جميع لوحات سيارات تفرغ زينه قال لي "هذا الجنرال فلان" قبل أن يحييه ويرجع نحوي قائلا "الصنادره ما عندهم الحق يحظرو للمهرجانات، ولكن الجنرال حضر من أجل أن يتأكد أن شعبيته وأعيان قبيلته استطاعو الدخول ويوجدون في الصفوف الامامية، كي يلاحظهم الرئيس ويتأكد من ولائه"..
المكان : تفرغ زينه.. الزمان : يناير 2023
غص سرادق العزاء على سعته بالزوار، أجانب وموريتانيون من جميع أنحاء البلاد، شرقها وجنوبها وساحلها، وزراء وجنرالات وبرلمانيون، ناهيك عن رجال المال والاعمال والسياسة والإعلام، بعضهم سافر جوا منذ يوم أو بعض يوم، لتقديم واجب العزاء.
كيف لا والفقيد أحد بناة الوطن، الذين ساهموا في وضع اللبنة الاولى للكيان الوليد، فضلا عن المكانة المرموقة التي نالها بفضل غزارة علمه ودماثة خلقه، وحمله لمشعل الحضارة الشنقيطية إلى جميع أصقاع المعمورة.
ثم فجأة انفلق الجمع، لكأنها معجزة انشقاق البحر لسيدنا موسى عليه السلام. تمتمة هنا وهناك.. عزيز جاء، هذا عزيز.. وقف أبناء الفقيد بأدب لاستقبال الرئيس السابق وأجلسوه بينهم دون أدنى صعوبة، علما أنهم دقائق قبل ذلك كانو يجدون صعوبة حقيقية في التنفس من شدة الضغط والاختناق.
هل تتذكرون الجنرال الذي حضر المهرجان متلثما ؟ أصبح الآن متقاعدا. أدار وجهه صوب الستار "أكورار". هل تتذكرون صديقي الذي دفع 100.000 من أجل تحية عزيز ؟ هرب حافي القدمين، دون أن يجد الوقت للبحث عن نعليه. هل تتذكرون النائب صاحب الخطاب الناري ؟ خرج مهرولا دون وداع أحد !
لا إله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين.. ما أقرب القصر من الأسر وما أقرب الحياة من الموت، فسبحان الحي الدائم الذي لا يموت…