اللغة العربية رمز الهُوية وخزَّان القيم

المهابة محفوظ

يقتضي الوعي الثقافي واللغوي والحضاري للباحثين والدارسين وحملة الهم الفكري أن يستوعبوا العلاقات المركزية والبنيوية والدلالية بين اللغة والوحي والإسلام والحضارة والأم والأمة، وذلك على نحو من التكامل والتواصل والتفاعل والترابط العضوي بين هذه المفاهيم والمصطلحات وما يترتب عليها من آثار وتبعات متصلة بمستقبل اللغة العربية والأمة الاسلامية.

فاللغة العربية هي لغة الأم، والأم مدرسة، وهي لغة الأمة، والأمة أجيال حضارية حاملة لأوعية العلم والأخلاق والدين.

وهي لغة الإسلام؛ والإسلام هو الدين الخاتم، والمنهاج العادل، والمحجة البيضاء، والصراط المستقيم، والملة الوسط.

وهي لغة الوحي والوحي هداية وشريعة إلهية خالدة ذات مقاصد ومناهج ومعالم حضارية وكونية لإخراج البشرية من الظلمات الى النور.

وحسبك أن تدرك بحق أن هذه اللغة العربية الشريفة هي منبع الفضائل والمناقب، وترجمان العقل، ولسان الوحي الذي اختاره الله لإسعاد البشرية وتكريمها وتشريفها.

 والوحي حينما نعبر عنه باللغة والأسلوب والمصطلح هو منهج قائم ونظام متكامل من الهداية الربانية

و الإعجاز والبلاغة والتحدي والعقل والفطرة والمصالح الحقيقية.

واللغة العربية هي السمة الحيوية البارزة للامة وليست مجرد نطق ولسان فحسب بل هي لغة الروح والعقل والوجدان بما تقدر عليه من التوصيف والتكشيف والإبداع، وهي لغة الفكر والمشاعر والرقي اللغوي تعبيرا عما تجسده من القوة الحضارية والانسانية والخلود لاتصالها بالوحي ونشرها للوعي بمعجزته العقلية واللغوية وقيمه الباقية على مر الزمان.

اللغة العربية ضمان ورهان ودليل على قدرات الإنسان على فهم الدين وتنزيله والوعي بمقاصده وحقائقه وأوعيته الحاملة لعلوم دلالته وتفسيره.

 ولا يجوز الفصل بين اللغة العربية وكتاب الله عز وجل بل يجب الربط والتواصل في صيرورة أبدية لا تنفصم عراها حتى يفهم أن قداسة اللغة وهيبتها من قداسة القرآن وهيبته وقد صدق الإمام الشافعي في تعبيره عن علاقة اللغة بالقرآن حيث قال: (اللغة العربية جزء من ماهية القرآن الكريم) ومن هنا شرفت وعظمت وتقدست وبان ما لها من المزايا على اللغات الأخرى.

 وليس الوحي مجرد قصص وأخبار وتاريخ بل هو فوق ذلك نور وهداية وعلم ومنهج ورحمة بالبشرية رجالا ونساء وأطفالا.

لذا فكل طفل يفترض أن يتربى في أحضان أمه، وهي التي تصوغ عواطفه ومشاعره، وتربي فيه معاني القيم والأخلاق والصفات الحميدة.

ولا يتم ذلك بوساطة التفاعل الجسدي والعضوي فحسب بل يتم كذلك عن طريق اللغة الحق المباشرة التي هي أداة النقل والتربية والتواصل والتعارف والتفاهم والتأثير والإقناع والتوجيه.

 وإنما تنعكس شخصية الأم في أطفالها عبر توجيهها وتوظيفها لكل الوسائط اللغوية والعلامات والإشارات التي تنقل المقاصد والرسائل والدلالات في نسق لساني جزل ومنتظم من المشاهد الحيوية التي تمتزج فيها اللغة والفكر بالإشارات وبلغة الجسد والحب والعاطفة والحنان مما يجعل أقوى شخصية تؤثر في الطفل هي الأم بما لها من حضور وعطف وتعاطف وحضانة واحتضان وصدق في المشاعر والتجارب.

وليست اللغة مجرد حروف وأصوات فحسب بل هي فوق ذلك نسق من المصطلحات والمفاهيم والأساليب والرسائل المعبرة عن العقائد والقيم والاتجاهات والعزائم والدروب الفكرية والإنسانية والحضارية.

لا جرم أن وعي الكاتب العربي بمفردات واقعه وماضيه واستشرافه لمؤشرات مستقبله ومواكبته الدائمة لتطورات عصره ومستجداته أمر ضروري لحياة فكره وثقافته كضرورة الماء والهواء لحياته الجسمية.

ولا يجوز أن يبقى المثقف العربي في دائرة المواكبة بل يجب أن يكون طلعة فكر وريادة وإبداع وهذا ما تقتضيه كينونته المعرفية والإنسانية المتشبثة بقيم الحياة والثقافة والوجود والتجديد.

 إن هذا المستوى المطلوب من الإبداع والحضور الفكري والثقافي والوعي بقيم الأصالة والتحديث لا يؤدي دوره الصحيح المنوط به حاضرا ومستقبلا الا إذا تأسست ملكات الكاتب الفكرية والثقافية والإجرائية على ركن شديد وأساس متين من الفقه اللغوي والفهم العميق والدقيق للمفردات والمصطلحات والجمل والتراكيب والأساليب ومعرفة وجوه الخطأ والصواب والنقص والكمال والحقيقة والمجاز والتورية والكناية والتصريح والإشارة والرمز ووجوه الفصاحة والإبانة وأبنية الصرف والاشتقاق في نظامنا اللغوي.

ولا ريب أن التمكن من ناصية اللغة هو المدخل الأكيد لسلامة المنطلقات وبلوغ الغايات وتحقيق الإبداع الفكري والثقافي والأدبي لمن أراد الشموخ والفوز والفلاح في كل المسارات.

إ ن معرفة المثقف العربي أو الكاتب أو الاعلامي العربي بالقواعد النحوية والصرفية والبلاغية وأنماط وأساليب ومناهج الكتابة ووجوه تصريف الكلم وقواعد المعجم وفقه اللغة وأسرار العربية حاجة ذاتية وموضوعية وعلمية ومنهجية لانطلاق سفينة الفكر والثقافة والكتابة بأسلوب صحيح وطريقة محكمة لا ترى فيها عوجا ولا أمتا.

 ولعل هذا ما جعل العلاقة جدلية قوية لا تنفصم بين "اللغة والفكر" و"اللغة والثقافة" و"اللغة والكتابة" و"اللغة والإعلام" و"اللغة والمعجم" و"اللغة والسياق".

 ورغم ما لهذه العلاقات من القوة والوجاهة؛ فإن واقعنا اللغوي والثقافي العربي المعاصر يعيش انفصاما نكدا بين هذه الثنائيات الكبيرة الحساسة ذات التأثير العظيم في حياتنا المعاصرة.

فكم من كاتب أو مثقف عربي يكتب ويؤم الناس في الثقافة والفكر وهو ليس من أهل الرواية والدراية بهذه اللغة العربية الشريفة، وإنما يمارس أدوار الهدم والتدمير والتضليل بما يرتكبه من الأخطاء القاتلة التي تمثل أكبر إهانة للغة العربية وحضارتها ودينها وحامليها، أليس كذلك؟

وإذا كان من الواجب على سائق السيارة أن يكون عارفا بقوانين السير ومتمرسا ومتدربا على القيادة وخصوصا إذا كانت المدينة كبيرة ومكتظة بحركة السير؛ فإنه من أوجب الواجبات

على الذين يخوضون غمار الكتابة أن يكونوا أولي خبرة وتمرس وتعمق في "قوانين السير" في مدينة "اللغة العربية " ذلك بأنها كبيرة وصعبة المداخل والمخارج وذات أنفاق وجسور وتعرجات وطرق كالبحار تصعب معها السباحة والسلامة والنجاة إلا لمن عرف وتمرس وتدرب وتذوق وتعمق وصارت له ملكة في الفقه اللغوي تجعله قادرا على أن يكون ربانا لسفينة الفكر والثقافة واللغة، كما يلزم أن تكون له الكفاءة على ضبط العلاقة بين دوال اللغة ومدلولاتها و معرفة شواردها وأوابدها ومصطلحات الثقافة والفكر ومفاهيمهما وصياغة ذلك وفق أساليب اللغة المعهودة وقوانين السير المطلوبة مع مراعاة لوازم علوم المعجم والسياق ومكانة اللغة العربية وشرفها وقداستها المستمدة من الوحي الرباني.

  ويكفيها شرفا ومنزلة وتفوقا وتأثيرا أنها لغة القرآن والعبادة التي اختارها الله لهذا الغرض النبيل وجعلها لغة المناجاة والتقرب والتوحيد التي يجب أن تكون على ألسنة المسلمين في الصلاة وتلاوات القرآن خارج الصلوات، فهي بذا متصلة بالكيان البشري وموجهة للعقل والفكر والسلوك والحياة والشعور وليست قاموسا مدونا في الصفحات والرفوف بل هي معجم حضاري وتاريخي ومستقبلي حيوي ونشيط وفعال بما لها من التلاحم العضوي مع القرآن ورسالته العالمية وأهادفه الربانية وقيمه الإنسانية وتطبيقاته في مختلف المجالات.

 وهنا نسوق بعض الاقوال والحكم المفيدة لبعض الائمة الاعلام في مختلف العصور التي عبروا فيها

عن الوظائف الدينية والحضارية والريادية لهذه اللغة العربية الشريفة.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

1-"تعلموا العربية؛ فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض؛ فإنها من دينكم".

2- وقال أيضا:" تعلموا العربية؛ فإنها تُثبِّت العقل، وتزيد في المروءة".

3- كما كتب إلى أبي موسى الأشعري يأمره برعاية العربية وحراستها: "أما بعد فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن؛ فإنه عربي".

4- وقال عمر بن عبد العزيز:" إن الرجل ليكلمني في الحاجة يستجوبها فيلحن فأرده عنها، وكأني أقضم حب الرمان الحامض لبغض استماع اللحن، ويكلمني آخر في الحاجة لا يستجوبها، فيعرب فأجيبه إليها التذاذا لما أسمع من كلامه".

5 – وقال أيضا: "أكاد أُضرَس إذا سمعت اللحن".

اللغة العربية لغة التواصل الثقافي ومصدر القوة والعزة والفخر والفخامة للمؤمنين، ومصدر الكرامة والتميز والهيبة والرفعة للمسلمين؛ لأنها ناطقة بالرسالة الخاتمة، ولسان النبوة، وحاملة للواء التبليغ على مر الزمن، وهي بذا لغة دين وقرآن وحضارة وقيم وصناعة وعبادة ودعوة ومستقبل وتقانة.

وليس هذا فحسب بل هي لغة العلم والفهم والأدب والإبداع، ومن تبحر في معارفها وفنونها ازداد بها خلقا وفقهاً وبصيرة، وأدرك من حقائقها وأسرارها كنوزا لا تعد ولا تحصى، ووقف على مكمن شرفها وفضلها وعلو كعبها، وشاهد من كثب، ما فيها من النكت والحكم والمزايا.

6- وقال مالك بن أنس" الإعراب حُليُّ اللسان، فلا تمنعوا ألسنتكم حُليَّها".

7-يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون".

8- وقال رحمه الله أيضا:" معلوم أن تعلم العربية وتعليم العربية فرض على الكفاية، وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي، ونصلح الألسنة المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة والاقتداء بالعرب في خطابها، فلو تُرك الناس على لحنهم كان نقصا وعيبا".

9-كان أبو أيوب السختياني يقول:" تعلموا النحو؛ فإنه جمال للوضيع، وتركُه هُجنة للشريف"

10-يقول الرافعي:" ما ذلَّتْ لغة شعب إلا ذلَّ، ولا انحطَّتْ إلا كان أمره في ذهاب وإدبار".

11- يقول الامام الشاطبي:" إن هذه الشريعة المباركة عربية لا مدخل فيها للألسن الأعجمية... وأن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة، فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة؛ لأن الله تعالى يقول "إنا أنزلناه قرآنيا عربيا" يوسف2 إلى غير ذلك مما يدل على أنه عربي وبلسان العرب، لا أنه أعجمي وبلسان العجم، فمن أراد تفهمه فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة" الموافقات في أصول الشريعة- بيروت دار ال معرفةج2/64

12- يقول الإمام الشافعي في بيان فضل اللسان العربي:" وأولى الناس بالفضل باللسان من لسانه لسان النبي، ولا يجوز أن يكون أهل لسانه أتباعا لأهل لسان غير لسانه... بل كل لسان تبع للسانه، وكل أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه" الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي بيروت دار الفكر ص: 46

13- يقول أبو الفتح عثمان بن جني:" فلقبائل العرب لغاتهم، واللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم" الخصائص ط2 بيروت دار الهدى

14- يقول ابن تيمية: إن الله عز وجل" لما أنزل كتابه باللسان العربي وجعل رسوله مبلغا عنه الكتاب والحكمة بلسانه العربي، وجعل السابقين على هذا الدين متكلمين به، لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان، وصارت معرفته من الدين، وصار اعتياد التكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله، وأقرب إلى معرفة شعائر الدين، وأقرب على مشابهتهم للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، في جميع أمورهم" ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم، مخالفة أصحاب الجحيم، بيروت المكتبة العصرية

15- قال أبو عمرو بن العلا:" لَعلم العربية هو الدين بعينه"

16-يقول الدكتور عبد الرحمن بودرع:" وما من إهمال يلحق باللسان العربي إلا ويصيب عقيدة المسلمين وكتابهم ودينهم بالمثل، فقد كان لسان القرآن ركنا مكينا في بناء وحدة الأمة". 484

ونخلص إلى النقاط التالية:

1.الحقيقة الماثلة للعيان أن أي تفريط في اللغة العربية أو تهميش أو إقصاء لها هو دليل صارخ على تهميش القرآن وقيمه وإقصاء الحضارة الإسلامية ومثلها من المعادلة الحضارة المعاصرة وهو كذلك ضربة قاتلة للنواة الأساس للامة وهي الاسرة المسلمة ومستقبل المجتمعات الإسلامية المنوط بكيان الأسرة.

2. لذا فالحرب على اللغة العربية هي حرب على الدين والعقيدة والقيم والمروءة والوجدان الاجتماعي والعاطفي والأخلاقي للامة.

3.وفي المقابل فإن أي عناية باللغة العربية وتشريفها وتكريمها وتبويئها مكانتها المركزية هو دليل على رعاية الدين والقرآن والخلق والقيم.

4.وما يبذل هنا أو هناك من جهود لتدوين المعاجم والقواميس ورعاية اللسان العربي على أيدي بعض الدول وخصوصا دولة قطر وكذلك الشخصيات العلمية الخيرة لأمر محمود ومقدر وينال به أصحابه الرفعة والشرف في الدنيا والآخرة.

5.لذا ندعو كل الدول العربية والشخصيات المرجعية والهيئات الرسمية والمبادرة الاجتماعية:

كلٌّ من موقعه وتخصصه ومجال سلطته إلى نصرة هذه اللغة المباركة الشريفة ودعمها بكل أنواع الدعم المعنوي والمادي حتى تنال حظها وحقها من التكريم والتقدير والصدارة والهيمنة والسيادة والقيادة والريادة، وتلك هي توبة الجميع من عقوقها والتخلي عن رسالتها وأهدافها.

6. لا شك أن التضلع في فقه اللغة وعلوم المعجم ودلائل السياق حاجة ضرورية للمعلم والمدرس والأستاذ والكاتب والباحث والمؤلف والشاعر والناقد والروائي والمثقف العربي والمحرر والمدقق والخطيب ويجب ان يكون لكل واحد من هؤلاء مسلك خاص في دعم الصناعة اللغوية والمعجمية والفكرية المعززة لمكانة اللغة العربية في كافة الميادين الحيوية.

7- تبقى الدراسة السياقية للكلمات اللغوية هي المنهاج السليم للوقوف على تاريخ الكلمة ودلالاتها وتطوراتها عبر الزمن وكيف نشأت؟ وكيف تطورت؟ ولا يمكن أن تكون الدراسة المعجمية للمفردة مُغنية عن علم السياق ومنهجه في تقرير النتائج والوقوف على المآلات.

 

ثلاثاء, 09/08/2022 - 15:10