كرة القدم هي تلك اللعبة الجميلة التي سحرت أعين ملايير البشر حول العالم، حتى بات لها تأثير كبير في حياة الناس، ممارسة ومتابعة وعملاً، فهي رغم أنها مجرد "جلد مدوّر منفوخ"، إلا أن الناس منقسمون جميعاً بين من يجري خلفها، ومن يجلس تسعين دقيقة ليشاهد من يجري خلفها!
ومن أهم أسرار جمال هذه اللعبة أنه لا يوجد سر يبحث عنه أحد لتفسير جمالها وتعلق الجماهير بها، ويكفي أن تقرأ ما قاله عنها الأسطورة الراحل يوهان كرويف لتدرك مدى قيمتها، حين قال إن "لعب كرة القدم بسيط للغاية؛ لكن لعب كرة القدم البسيطة هو أصعب شيء"!
ومنذ عقود خلت، صارت هذه اللعبة هي الأولى جماهيرياً والأكثر شعبية وشهرة في العالم بدون منازع تقريباً، حتى أن منتخبات الدول لكرة القدم أصبحت من رموز سيادة واستقلال الأمم، تماماً كما هو حال العلم والنشيد الوطنيين لكل بلد.
#نعم كانت لعبة الفقراء!
لكثرة ما اشتهرت به هذه اللعبة من مواهب ونجوم قادمين من الأحياء الفقيرة ومن الأزقة والشوارع المنسية التي لا تلفت بال أحد، فقد أطلقوا عليها "لعبة الفقراء"، لأن الأغنياء كانوا حينها يلعبون في "االكازينوهات" لأنها تدر عليهم الأموال أكثر من غيرها، وإن أرادوا الخروج إلى الهواء فهم يخرجون لممارسة لعبة "الغولف" لا إلى كرة القدم، بينما كان الفقراء يأسرون الألباب بلعب كرة القدم حتى جعلوها بخق "آفيون الشعوب"!
لكن؛ هل حقاً ما زالت كرة القدم "لعبة الفقراء"؟!
رغم أن الأكثرية الساحقة من متابعي كرة القدم في العالم اليوم ما زالوا من الفقراء، ورغم أن الفقراء أنفسهم ما زالوا هم الأكثرية في العالم، والأكثر بحثاً عن وسائل الترفيه السهلة والرخيصة، فإن كرة القدم ما زالت هي أكثر أداة قادرة على تلبية هذه الرغبات الترفيهية، بيْد أنها في الواقع لم تعد لعبة الفقراء كما كانت، بل صارت لعبة في يد الأغنياء متخذين منها أداة للتلاعب بعواطف وهوايات الفقراء!
#معلومة قبل أن نواصل؛
هل تعلم أن ما كان يتقاضاه نجم مثل بيلي ومن بعده أسطورة مثل مارادونا عن شهر كامل من لعب كرة القدم في أبهى تجلياتها، لا يصل إلى مثل ما يتقاضاه الآن مبابي ونيمار مثلاً في الدقيقة الواحدة؟!
***
نجح الرئيس السابق للفيفا جوزيف بلاتر في تحويل اللعبة إلى صناعة تدر الكثير من المال على ممارسيها منذ منتصف التسعينات، عندما ابتكر بعض الأفكار التسويقية الرائدة للاستفادة من عائدات النقل التلفزيوني على مستوى العالم.
وهذا ما استفادت منه الأندية الكبيرة لاحقاً، حيث بدأت شعبية اللعبة تزيد وبدأت طلبات المشاهدة ترتفع لمتابعة نجوم اللعبة الذين برزوا في بطولات كأس العالم مع أنديتهم كذلك!
هذا الواقع فتح الباب واسعاً أمام ارتفاع قياسي لأسعار سوق الانتقالات، فبدأنا نرى صفقات بعشرات الملايين لأول مرة في تاريخ اللعبة، وحدث معظم ذلك في أفضل بطولة أوروبية آنذاك وهي الكالشيو الإيطالي؛ حيث انتقل كريستيان فييري من لاتسيو إلى الإنتر بما يقارب 36 مليون يورو، وانتقل كريسبو بعد ذلك من من بارما إلى لاتسيو بمقابل زهاء 40 مليون يورو.
#الريال كان البادئ..
رغم ما عرفته أواخر التسعينات من ارتفاع كبير في أسعار اللاعبين، إلا أن الأرقام لم تعرف "الجنون" حرفياً إلا في القرن الحالي، وقد ظهرت معالم ذلك مبكراً عام 2000 تحديداً، عندما انتزع الرئيس الجديد للريال آنذاك فلورنتينو بيريز من برشلونة نجمه الأول لويس فيغو من خلال كسر عقده مقابل 62 مليون يورو، فسمي فيغو بعدها بالخائن في تاريخ النادي الكاتلوني، لكن المال كان أقوى منه!
ومن غرائب الصدف أن الصحف المدريدية بعد ذلك بعقدين من الزمن ستصف كليان مبابي بالصفة نفسها "الخائن" رغم أنه لاعب في فريق آخر ولم يرتدِ أبداً قميص الريال إلا على الفوتوشوب!
أما ثاني صفقة فلكية آنذاك فقد أبرمها الريال أيضاً، عندما اشترى زيدان من يوفنتوس مقابل ما يربو على 75 مليون يورو، واحتكر الريال بعد ذلك الصفقات العظمى، فجلب كريستيانو رونالدو مقابل 94 مليون يورو عام 2009.
ثم تجاوزت الأرقام حدود المائة مليون لأول مرة في التاريخ، وكان ذلك على يد الريال أيضاً عندما اشتري غاريث بيل من توتنهام مقابل 101 مليون يورو.
#استثمارات تنافس الريال!
بعدما نجح الريال في السيطرة على سوق اللاعبين بأرقامه الفلكية، ظهرت أخيراً استثمارات خليجية ضخمة للغاية في سوق كرة القدم الأوروبية، لتشهد الأرقام صعوداً عظيماً لم يسبق له مثيل!
بدأها البي أس جي عبر كسر عقد نيمار مع برشلونة عام 2017 بمبلغ فلكي زاد على 222 مليون يورو، أتبعه برقم آخر قريب منه بشراء مبابي من موناكو مقابل 180 مليون يورو.
ورغم أن مانشستر سيتي أبرم كذلك صفقات كثيرة باهظة الثمن في السنوات الماضية، إلا أنه لم يكسر حاجز المائة مليون إلا متأخراً عندما اشترى الموسم الماضي جاك كريليش مقابل 117 مليون يورو قادماً من أستون فيلا.
وحاول برشلونة مجاراة هذه الأندية من خلال شراء دمبيلي من دورتموند مقابل 105 ملايين يورو، ثم كوتينهو من ليفربول مقابل 135 مليون يورو، وغريزمان قادماً من أتلتيكو مدريد مقابل 120 مليون يورو إلا أنه سرعانما انهار اقتصادياً بعد ذلك، ليترك الساحة خالية للريال الذي صمد بعض الوقت في مواجهة الأموال الخليجية، فاشترى هازارد مقابل 115 مليون يورو عام 2019.
#محاولات أخرى..
دخلت أندية أخرى على الخط، حيث اشترى أتلتيكو مدريد جواو فيليكس مقابل 127 مليون يورو، وانتقل بول بوغبا إلى مانشستر يونايتد مقابل 105 ملايين يورو! ووصل لوكاكو إلى تشلسي مقابل 113 مليون يورو!
وعرض الريال العام الماضي مبلغ 180 مليون يورو لشراء مبابي، إلا أن ذلك جعل البي أس حي يكشر عن أنيابه، ليرفع الأرقام إلى مستوى يبدو أن أي نادٍ لا يستطيع مجاراته فيه، ورغم أن النادي الفرنسي المملوك لمستثمرين قطريين لم يكشف الرقم الحقيقي الذي وضعه على طاولة نجمه لإقناعه بالبقاء، إلا أن ما يتبيّن من مساء الأحداث أنه رقم جدير بوضعه ضمن قائمة الأرقام القياسية في أسعار اللاعبين، وإن كان الـ بي أس جي لم يصرف هذا المبلغ المتخيل لشراء لاعب من فريق آخر، بل للحفاظ على نجمه الذي كان الريال أن يخطفه من بين يديه!
وفي المحصلة، يمكن القول إن الريال كان أول فريق يُفسد السوق الكروي بضخ أموال طائلة لشراء اللاعبين، إذا اعتبرنا ذلك إفساداً أصلاً، إلا أنه كان آخر المتضررين من هذا الواقع عندما خسر الصفقة التي خطط لها كثيراً وربما قد بنى محور مشروعه عليها في السنوات القادمة، وهو ما يصدق عليه المثل العربي: "يداك أوكتا وفوك نفخ"!
بعد كل هذه الأرقام الفلكية، يبدو بالفعل أن كرة القدم لم تعد لعبة الفقراء، بل صارت بجدارة لعبة الأثرياء، إلا أنها مع ذلك تبقى أكثر ما يسحر عقول وقلوب ملايين الفقراء في هذا العالم الغريب!











