مهرجان ترانيم: الناي و الجذب و زغاريد الأبنوس

الشيخ بدو

ترنَّم يا فتى وامدح نبينا .. ولا تسمع لقول العاذِلِينَا.
أحرقت للتو كوكبة مداحة  ترانيم  شمعتها التاسعة، في أحضان سنين رمادة سياسية و ثقافية طبعت المشهد المتفرج عليها رسمياً. ولولا أن هذه الشموع طبعها الإضاءة و الإشراق، لخفتت جذوتها و وهجها منذ زمن بعيد و لذُبحت كلمات أمداحها المحمدية بجمال أدائها و عظيم تجليها. 
لا يوازي هذا الحيف والبؤس، سوى ما عبرت عنه نسخة المهرجان هذا العام من جمال و صفاء و رُقي..لقد كما نعتقد بأن طرد المهرجان من فضاء التنوع البيئي و الثقافي سيكون إسفين الوداع لهذا المهرجان و لمركز ترانيم من بعده، و لكن شاءت مشيئة الله، أن يرفع قدر من مدح محبوبه و نبيه صلي الله عليه و سلم بشطر كلمة، و لو كره الكارهون. فكانت ساحة المعرض التي أُريد بها إبعاد المهرجان عن جمهوره هو الواحة التي ستكتب شهادة ميلاد ترانيم من جديد..لقد كان الجمهور هذه المرة ضخماً وكبيراً و صادقاً و عفوياً..و  صدق من قال بأن الجمهور هو الحقيقة.
مؤسسة مركز ترانيم للفنون الشعبية التي تأسست قبل تسع سنوات هو فسيفساء فنية رائعة وُجدت وسط  واقع متردي من البيروقراطية السياسيوية الحكومية و الانتقائية السوسيوثقافية  اللذين لا يقيمان قطمير اهتمام للجمال الأدبي، المتجسد في صورة فن، و أي فن؟ فن زراعة الجمال عبر مدح خير الورى صلى الله عليه و سلم و عبر إحياء المندثر من ثقافة مجتمعاتنا السحيقة.
ليس سرًا انه منذ أن بدء مركز ترانيم للفنون الشعبية في تلمس خطواته الأولى و هو يجابه بشتى أنماط الحيف و الإقصاء، و هو أمرٌ لم يستطع مديره و طاقمه و جمهورهم  أن يفهموه؟ لم تسطع الفسيفساء الوطنية العجيبة لترانيم أن تستوعب سبب الإبعاد و التمييز ضدها في المهرجانات الشعبية التي تقام برعاية رسمية غالباً، و اغلب الظن أن بعض سدنة (الثقافة) عندنا، لهم دور في استبعاد هذه النخبة المنتجة ثقافيا لأسباب عصية على الفهم.
مؤسسة ترانيم هي مؤسسة ذات طابع متخصص، تعمل على إحياء و تطوير الفنون الشعبية كجزء من التراث اللا مادي للحضارة الموريتانية و تعنى كذالك ضمن أنشطتها بإحياء المدح النبوي العظيم و الذي ترنمت به أجيال العبيد و الأرقاء السابقين، بعد يومها الشاق في المراعي و الفلاحة،  عشية ميلاد مجتمعاتنا التقليدية.تاريخياً، كانت هذه الترنيمة الليلية عادة هي السبيل الأوحد لحادي الصحراء المغمور أن يتعرف بها على نبيه المحبوب ثم على خالقه..وفق المتاح له من حظوظ التعليم آنذاك.
إن اللغة التي صيغت بها أبيات كلمات المدح يجب أن تظل بعيدة عن الصيانة اللغوية التي يحاول البعض إدخالها عليها كنوع من تصحيح المفاهيم الفلولوجية و الدوجمانطيقية لمجتمعات المدح، و في هذا تجني على التراث نفسه، لأنه مثلاً، تحويل الكتابات الهيروغليفية إلى كتابات عربية من على جدران الأهرامات الفرعونية لا يخدم الذاكرة الحضارية مطلقا بل يقتلها، و بالتالي فالتحضر يقتضي ترك الأثر الحضاري للرواية و للبناء شاهداً على اللحظة السوسيوثقافية التي أنتجت الموروث.
وهذه طبعاً واحدة من إشكاليات الفهم التي تظهر بين الفينة و الأخرى في نقاشات النخبة المحلية، عندما تتحدث عن هذا التراث اللا مادي للمدح و الفنون الشعبية و التي كان لمركز الترانيم عظيم الفضل في التصدي له  و دفع أثمانًا في سبيل ذالك.  
و لفهم المدح لابد من استنطاق اللحظة المدحية نفسها. إن المداح عندما يترنم بحب الحبيب المصطفى على طريقته، إنما يعيد رسم ما يراه مشهداً ملحمياً مُطلقياً حول النفس و الحياة و حول شمائله صلى الله عليه و سلم و حول ذاته و حول مواقفه و حاله مع الله و مع الناس، عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم، فهو بذالك يُحلق بترانيمه المدحية  في سموات المحبة المحمدية و منها يقتبس العبارة و إن ضاقت، بالمفهوم الصوفي. و يرقص الرقصة تمايلاً  و فيضاً و جذب محبة،  و لكنه لا يتوقف عن التذكير و التكرار الصوفي حد الفناء بأن الذات المحمدية هي القدوة و الوسيلة العظمى للسلام و المحبة و العدالة و الوئام المجتمعي.
أراد مركز ترانيم للفنون الشعبية أن يحيي جذوة المحبة المحمدية في النفوس، فأختار شهر رمضان رمزيةً للمحبة و العطاء و أختار ليالي ملحمية في التاريخ الإسلامي الرمضاني و ليس أدل على ذالك من تاريخ 17 رمضان الذي يوافق موقعة بدر الكبرى التي كانت فارقة بين العدل و الظلم و بين الحق و الباطل. إن لهذه الذكرى في المخيال الإسلامي صدى  لا يمكن إهماله من طرف المداح الذي تدور أغلب مدحاته الجمالية حول  شجاعة و بسالة و نُبل  المصطفى صلى الله عليه و سلم في المغازي و الحروب.
رغم كل تلك الجهود الجبارة التي قام و يقوم بها مركز ترانيم كمؤسسة لبناء المحبة و السلام و التآخي المجتمعي، الأمر الذي لا غنى عنه لمن يطمح لاستحداث نهضة و تنمية دولتية، و رغم أنه رسم في الحياة الثقافية و الاجتماعية الموريتانية لوحةً و منمنمةً من التنوع عز نظيرها، و رغم انه قوس القزح الوحيد الذي يجمع أطياف وطننا الحبيب من شتى المدن و القرى و الأرياف..رغم ذالك كله فقد كان حظه من الدعم  و الرعاية الحكومية منذ انطلاقته معدوماً.و لقد كان لهذا الإهمال الحكومي لهذه المؤسسة الرائدة في مجال إنتاج الثقافة الأثر الكبير في ضمور الثدي الثقافي لهذه البلاد.
كانت مشاركة موريتانيا على سبيل المثال في أكسبو دبي، و هو المعرض العالمي الذي يدعى له العالم لمشاهدة الإنتاج الاقتصادي و الثقافي لدول و شعوب العالم، كانت مساهمتنا إذاً.. خجولةً و لا ترقى  لمستوى أقرب دول المنطقة ، و كُنا نستطيع كحكومة و كوزارة وصية على الثقافة أن نقدم الأفضل بأن نسمح لمؤسسة ترانيم الرائدة أن تحيي الليالي الثقافية في دبي عبر ترانيمها في الجانب المدحي و عبر فنونها الشعبية في إطار اهتمامها بتراث اللامادي لحضارتنا الموريتانية..لقد ضيعت جهاتنا الرسمية هذه الفرصة للأسف.
لقد كان باستطاعتنا جذب أنظار العالم نحو بلادنا على إيقاع أمداح المصطفى صلى الله عليه و سلم كما فعل مهرجان المحبة في الشارقة يوما، و أنا على يقين أنه لو ترك الأمر لمنظمي مهرجان ليالي المدح أن يحيوه في دبي، بأناملهم الخاصة و عبر أفرادهم  و جمهورهم لجذب ما لا تجذبه حفلات أكبر نجوم الغناء.. ليس هذا الذي أقول هنا خيالاً البتة، و إنما يمكننا ان نرفع التحدي. فقد عُرفت موريتانيا في التسعينات بسبب أغنية جميلة للمعلومة منت الميداح غنتها في كولوسيوم قرطاج، و عُرفت موريتانيا في السبعينات بسبب الأوركسترا الوطنية التي  يقودها العميد الحضرامي ولد الميداح..إن الدول الضعيفة اقتصادياً يمكنها أن تجذب إليها المستثمرين المهتمين بالثقافة و الاجتماع و الفن لو امتلكت أدوات الإقناع. سوف يتحول ساعتها الفقر الإنتاجي إلى رغد اقتصادي بالضرورة و الأمثلة في العالم أكثر من أن تحصى. و لا يمكنك إن تتصور الإمبراطوريات الغربية المحلية التي تتربع على اقتصاديات العالم كانت ستكون في تلك المنزلة لو لم تستثمر في الثقافة و الأدب و الكتاب و الفيلم و الموسيقى وهذا هو ما يعرف بالاقتصاد الإبداعي.
إن المتتبع للساحة الثقافية المحلية، يدرك أنها بلغت  من الموت السريري حداً،  لم تعد العقاقير الحكومية، و الهبات و أشكال الدعم من جهات بذاتها، تُجدي نفعاً فيه، فقد انتشرت الغرغرينا في الجسم الثقافي المحلي لسبب وجيه و هو عجزه عن إنتاج القيم الأخلاقية و الجمالية التي تنفع الناس و تمكث في الأرض، و بات الركود الأدبي والخبال الثقافي هو ما يحركه الأراجوز النخبوي لإلهاء المجتمع عن موت الأدب  و جمالياته و فنونه الشعبية.
و الحقيقة أنه سيبقى ترانيم مركزاً و مؤسسة لإنتاج الجمال و صاحبة تجربة في جمع ما فشلت فيه كل السياسة المحلية من وفاق مجتمعي و حب و سلام و وحدة. و ستبقى النُخبة التي أنشئت هذا الصرح الفني لؤلؤة في سماء الإبداع المحلي و عليهم نعول في قادم الأيام في خلق حركة أدبية تعيد لنا بعض قسمات العالمية و بعض صفات و سمات الإنسانية، التي تتغنى  بالوجد و الجمال و الصفاء. و هذه النخبة منها من قضى نحبه، كالباحث و الصديق المغفور له  الشيخ الحسن البمباري الذي حملت هذه النسخة أسمه، و كالمداحة المغفور لها تسلم منت اجديد التي غادرتنا هي الأخرى قبل أربع سنوات. ولا يزال منهم من ينتظر،  نسأل الله لهم طول العمر و طول النفس و نتمنى أن تكون وزارة الثقافة لدينا تطمح لإحياء الساحة الثقافية عبر تمكين هذا المركز الفريد من نوعه من تحقيق أحلامه و تطلعاته.  
 

أربعاء, 04/05/2022 - 13:20