الإيهام المضموني

باته بنت البراء

في دراسة قدمتها في " ذكرى جمال ولد الحسن" عن " المنحى الصوفي في لغن عنده"؛ تطرقت أثناء الحديث عن بناء الصورة الفنية  في قصائده إلى ما أسميته: " الإيهام المضموني"، -وهو مصطلح من عندي-  وأقصد به بناء النص على مضمون معين ثم نسف هذا المضمون في نهاية الطلعه ليتحول المعنى إلى معنى مغاير للأول، ووجدت أن هذا التحول يكثر في اغن الغزل أساسا، حيث إن النية المبيتة لدى الشاعر تكشف عن نفسها في آخر النص، وهذا  المظهر الفني خاص بلغن الحساني يتميز به عن الشعر الفصيح، وإن كنا نجد في الفصيح ملمحا من ملامحه هو التورية، لكنها مجتزأة تقع في كلمة أو عبارة من النص.
والإيهام المضموني من وجهة نظري  تقنية من تقنيات بناء الصورة لدى الشعراء الموريتانيين ونجد أكثر من نص يعتمده؛ يقول محمد باب ولد إبراهيم اخليل:
جــان ديَّــارْ إِفْ شِمْنْ  الليلْ @@ إسوّل عن نَاكَه واجْمَيْـلْ
كلــتْ انِّي ما نعـــرفْ سبيلْ @@ والبِلْ ما نُوكفْ واعِدْهَا 
وَللَّ ما نعــرفْ شفتْ اكْبَيْلْ @@ مَانَه تِـتْـبَـسَّـــمْ  لُلِـــدْهَـا
إن السائل المتعب الذي سار ليالي وأيما يجوب الفيافي ويتسقط الآثار، ويعرج على كل حي وكل صاحب ذود بحثا عن ضالته  سيصاب لا شك بالحيرة والإحباط من جواب الشاعر له، فقد ظن به الجد وتأمل فيه الخير ولكن صاحبه مشغول بضالة أخرى ملأت وجدانه وشغلت تفكيره حتى ظن أن كل صاحب ضالة يشغله ما يشغله.

وعلى نفس النهج سار محمد عبد الجليل ول الحضرمي حين يقول:

بَهْــلْ أَشْــرَمْ ليـلَه مِـتْـخَــمَّــمْ @@ سَــــوَّلْـني راجِــــلْ مِـتْـلّـثَّــــمْ
دَيَّـــارْ إلْ حَـسْـبَه مِــنْ لغنــمْ @@ سَــولْــني عنها كامــلْ سِــيــكْ
كِــلْـــتْ انِّي لغنـمْ عنْــدي ذَمْ @@ ؤلا نِـمْـشِي وأيَّـاهَـا فِاطْـريــكْ
وَللَّ حَــــانِـيـنِي نِـتْــخَــمَّــــمْ @@ آنَ يَــامِــــسْ تَـوْ اطَّـــالـــيــكْ
الحَــيْــوانْ افْــــذَاكْ المَكْـسَـمْ @@ اذْكَـرْ لِي حَــدْ افْـذَاكْ الظِّيـــكْ
عَنْ لقْواربْ ذُوكْ أهلْ أشرمْ @@ نِـزْلُو فَــمْ إِفْ سَهْوِتْ لِـغْـلـيـكْ
انْـفِـــدْهُــمْ عَـنَّـــكْ حَــكَـــللَّ @@ وِاتْـنَـيْـمَـشْ فَـمْ؛ الناسْ اصْدِيكْ
أَلَّا تَجْــبَــــرْ غَـنْــمَـــكْ وَللَّ @@ تَـظْـبَــطْ زَادْ امْــنَــازِلْ لِـفْـريكْ
 يقول المثل العربي " ليس الخلي كالشجي" فالشاعر بات ساهر العين متذكرا أهل أشرم، وحين يقطع عليه  الملثم حبل أفكاره سائلا عن غنمه التي ضلت ، يرد عليه بدءا  بتشنج ظاهر فيذم الغنم وينفي أي صلة له بها، غير أن فكرة تعن له وهي  أن سبعث الرجل نيابة عنه في زيارة منعته موانع من القيام بها، لذلك يسترجع نفسه ويوهمه بحصول المبتغى: (ولل حانين نتخمم ) وهي عبارة تمنح السائل أملا بعد الرد الأول،  فيبدأ يغريه  بمردوية الرحلة، حيث سيمتع ناظريه: (وِاتْـنَـيْـمَـشْ فَـمْ؛ الناسْ اصْدِيكْ )، ثم يطرح له احتمالين  يمثل أولهما مرامهُ: (أَلَّا تَجْــبَــــرْ غَـنْــمَـــكْ ) أما الثاني فلحاجة في نفس الشاعر: (وللّ تَـظْـبَــطْ  زَادْ امْــنَــازِلْ لِـفْـريكْ) .
وإذا كان محمد باب ولد إبراهيم اخليل  ومحمد عبد الجليل و الحضرمي اتخذا من ضالة الإبل والغنم معبرا للغرض الغزلي، فإن شاعرا معاصرا يتخذ من مساءلة سائق  شاحنة له سبيلا إلى مقصده؛ يقول النبهاني ولد أمغر:
شُـفَـيْــرْ أهْــلْ الصَّــبَّـــارْ @@ سَــوَّلنِي عَــنْ تِــجْـــهَــارْ
گِــدْرُوهْ ؤعَــنْ تِحْــــفَــار @@ مَــذْكُـــورْ اعْـلَ النَّكْــسَه
تَـلْ الــوَاد،ْ ؤُحَـــــــــمَّـــارْ@@ يَصبَــحْ فَــمْ ؤُيَــمْــــــسَ
وأيَّــاكْ اطْـــريِـگُو صَــارْ@@ فَــوْگْ اعْـلَـيْبْ الدَّحْـــسَه
مَـلْسَه ؟ گـلـتْ: أنِّي حَــدْ @@ غِــشْــمِي هَــكْ ؤيَــنْـــسَ
وَألاَّ نَـشْـهَــــد عـن بعــدْ @@ مِـنْــتْ الْحَـسَّــــنْ مَـلْـسَه 
فالشاعر من يسائله صاحب شاحنة، لا تهمه ضالة الإبل ولا الغنم وإنما الطريق الذي سيسلكه بسيارته المحملة بالبضائع فهو يخاف الحفر ويخشى الحمر السائبة ويريد أن يطمئن إلى استواء الطريق: (وأيَّــاكْ اطْـــريِـگُو صَــارْ@@ فَــوْگْ اعْـلَـيْبْ الدَّحْـــسَه/ ملسه؟
غير أن الشاعر كان مشغولا ب (املوسيه) من نوع آخر؛ وليست املوسية الطريق وإنما املوسية الحبيبة: (وَألاَّ نَـشْـهَــــد عـن بعــدْ @@ مِـنْــتْ الْحَـسَّــــنْ مَـلْـسَه) 
إن الإيهام المضموني في هذه النصوص يظهر تقنية بارعة لبناء الصورة وشد انتباه المتلقي ومجانبة الصرحة والتقرير، وليس مقصورا على غرض الغزل بل إنه يوجد في المدح والهجاء كذلك، وهو ما سأخصص له تدوينة بحول الله.

 

أحد, 30/05/2021 - 16:02