من الواضح أن الرئيس الانتقالي في مالي باه نداو وحكومته كانا تحت ضغط الإحباط الشامل في مالي من أداء الحكومة، ومن غموض أفق مستقبل البلاد بشكل عام، والعملية بشكل خاص.
فالحراك الاجتماعي عاد بقوة بعد نحو تسعة أشهر من الانقلاب، والإضراب الشامل شل الحياة في الدولة أو كاد، والحراك الذي أسقط الرئيس إيبكا "لا يجد ذاته" في النظام الجديد، والعسكر يشعرون أنهم "ضويقوا" في سلطتهم، ويكاد لهم للإخراج من ترتيبات المستقبل، ومشايخ الطرق الصوفية يهددون بإنشاء حركات مسلحة إذا لم تلب مطالبهم (تم تداول تصريح للشيخ محمدو حماه الله يصب في هذا السياق)، وسياق المصالحة الذي رعته الجزائر لإعادة الاستقرار إلى الشمال يكاد يتلاشى تحت تفاصيل ضغط مشاكل البلد، وضياع أجنداته الخاصة في تضاربها مع الأجندات الدولية (الفرنسية خصوصا)، والإقليمية.
ولا يمكن تجاهل السياق الإقليمي، وما جرى في تشاد قبل أسابيع، وتأثيرات الأوضاع فيها على مجموعة الدول الخمس بالساحل، وخصوصا في جوانبها الأمنية.
ومن المؤكد أن الخيارات أمام باه نداو جد محدودة، فهو جاء في إطار توافقي، وبعد مسار تفاوضي عسير، أفضى إلى اتفاق على مرحلة انتقالية، وحكومة احتفظ العسكر بحقائبها الأساسية.
ويبدو أن رأي باه انداو – ومن يتشاور معهم – استقر على تغيير الحكومة، وأن موعد إعلان الحكومة الجديدة تقرر أن يكون بعد العودة من فرنسا، وبالتزامن مع وصول قادة أركان الدول الخمس بالساحل، للمشاركة في الاجتماع الدوري العادي الحادي عشر للجنة الأمن والدفاع التابعة لمجموعة الخمس في الساحل، ربما للاستقواء بهم – ولو أخلاقيا - في منع العسكر من التحرك احتراما لضيوف عسكريين، ومع تأكد وصول هؤلاء تم الإعلان عن الحكومة الجديدة، الثانية منذ الانقلاب وضمت 25 وزيرا.
تم الإبقاء على حقائب العسكريين، لكن تمت إزاحة أعضاء المجلس الانقلابي، وتعويضهم بعسكريين آخرين، وذلك ضمن الخطوات التكتيتية لتمرير الخطة بهدوء,
اتضح سريعا أن "قراءة" وتوقع الرئيس الانتقالي ووزيره الأول مختار وان لردة فعل الانقلابين كانت غير دقيقة، فسرعان ما تم اقتياد الأخير إلى منزل الأول، قبل أن يتم اقتياد الجميع إلى "منجم" الانقلابات في مالي قاعدة "كاتي" العسكرية في ضاحية باماكو.
وتحول الرئيس ووزيره الأول إلى "رهائن" لدى الانقلابين، وعاد البلاد لنقطة الصفر، غداة الإطاحة بالرئيس السابق إبراهيم بوبكر كيتا أغسطس 2020.
من الوارد أن تثمر الضغوط الدولية والإقليمية تراجعا متبادلا، أي يتراجع الانقلابيون عن احتجاز الرئيس، مقابل تراجع الرئيس ووزيره الأول عن الحكومة الجديدة، والتفاوض بشأن حكومة أكثر قبولا لدى الأطراف، لكن ذلك لن يكون حلا للأزمة بقدر ما هو تأجيل لها، مع زيادة احتمال تفجرها في أي وقت في ظل انكشاف انهيار الثقة بين الأطراف التي تقود المرحلة الانتقالية. (يؤشر لذلك بدء الحديث عن استقالة الوزير الأول، واتجاه الرئيس لتكليفه، أو تكليف غير بتشكيل حكومة جديدة).
وقد يركب العسكريون رؤوسهم، ويبدأون التفاوض مجددا للاتفاق على مرحلة جديدة، وقائد مدني جديد، وحكومة جديدة.
وعلى العموم فليس في الحلين ما يغير الواقع الاجتماعي المأزوم، ولا ما يطمئن على مستقبل هذه البلد الذي يعيش أزمات متعددة ومستحكمة، ويحتاج "استرجاع" قراره، وتفاوض فرقائه بعيدا عن أي ضغوط، وحينها سيتمكنون – بلا شك – من التعايش، واستعادة وحدتهم، تماما كما كانوا لعقود طويلة، بل لقرون.
وكخلاصة، فمن الواضح، أن جهة ما "حرضت" الرئيس الانتقالي على انتهاز فرصة الاحتقان الاجتماعي، والمتغيرات الإقليمية للتخلص من الانقلابيين، وقد لا تكون فرنسا بعيدة عن هذا المسار، وقد تكون نصحته بانتهاز فرصة توافد العسكريين على باماكو، غير أن الأحداث كشفت أن رهان الجميع كان خاسرا، وأن قرار الرئيس أعاد البلاد إلى نقطة ما بعد انقلاب أغسطس الماضي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بدأت "التدوينة" وأنا "أنتوي" الاختصار، لكن يبدو أن تشعب الأحداث، وتعقد الواقع، أدى لتمدد الموضوع أطول مما أردت ونويت.