التلاوة والتدبر في رمضان: فرصٌ للتقرب والثواب

د. المهابة محفوظ أستاذ جامعي وبحث أكاديمي

يتناول هذا الموضوع أهمية هذا الشهر الفضيل وفوائد الصيام والقيام وفضائل التلاوة
وبيان مفهوم التدبر في اللغة والاصطلاح وذكر الآيات الواردة فيه وعرض فوائده.  
 أولا: أهمية الشهر الفضيل:
رمضان شهر القرآن والإحسان، وشهر الصبر والإيمان، وشهر القيام والتضرع والمغفرة، وشهر التوبة والذكر والاستغفار، وشهر المراجعة والتصحيح ومحاسبة النفس، وشهر التدبر والتفكر وتقييم المسار الشخصي لكل مسلم حرصا على كسب صفات الخشية والتقوى والشكر التي جعلها الله ثمارا للصوم الصحيح بشروطه وآدابه وفضائله، حيث فرض الله الصيام على المؤمنين لحصول الرغبة والرهبة وبناء الذات.  قال تعالى في سورة البقرة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (183)
وقال تعالى أيضا في سورة البقرة (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (185) 
 رمضان شهر "الكلام الطيب" وشهر "الإطعام" وشهر "مداومة الصيام" و"مداومة القيام":
فعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم: " إِنَّ فِي الجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِمَنْ أَطَابَ الكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ " (رواه الترمذي وصححه الألباني).
 رمضان وما أدراك ما رمضان!؟ إنه مدرسة تربوية متكاملة ومتوازنة وثمراته نافعة في تعزيز الصحة الروحية والصحة البدنية وكسب الفرص العظيمة في التوبة والتقرب والثواب والتنافس في التلاوة والتدبر ونيل الأجور والحسنات وذلك بتوظيف الأوقات الغالية في الأعمال الصالحة العالية: من تعبد وتضرع وذكر ودعاء وصدقة وتعلم وخدمات اجتماعية وإنسانية وطبية وعلمية للمجتمع الخاص والعام، والمحلي والوطني. 
 إنه فرصة عظيمة لقبو ل الدعاء والتقرب وقضاء الحوائج من خزائن الله التي لا تنفد.
فعَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاثُ دَعَواتٍ مُستجاباتٍ: دعوةُ الصائِمِ، ودعوةُ المظلُومِ، ودعوةُ المسافِرِ " (رواه البيهقي والطبراني وصححه الألباني). 
ثانيا: فوائد الصيام:
- 1-إضافة الصيام لله تعالى تشريفاً لقدره وتعريفاً بعظيم أجره
عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ " (متفق عليه)
 2-الصيام من أفضل الأعمال عند الله تعالى  
 فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِأَمْرٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ " (رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني) 
 3-الصيام جُنَّة من شهوات الدنيا وعذاب الآخرة: 
 فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الصِّيَامُ جُنَّة، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ " (رواه البخاري). 
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا " (رواه البخاري).
وعنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " الصيامُ جُنَّةٌ وحِصْنٌ حصينٌ مِنَ النارِ " (رواه أحمد وحسنه الألباني). 
4-يتحقق بالصيام أجر الصبر:
فيجتمع في الصيام أنواع الصبر الثلاثة، وهي الصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقداره سبحانه وتعالى. فلهذا كان الصوم من أعلى أنواع الصبر؛ لأنه جامعٌ بين الأنواع الثلاثة، وقد قال الله تعالى: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (الزمر:)10
 5-الصيام كفارة للخطايا والذنوب:
إن الصيام من الأعمال التي يكفر الله بها الخطايا والذنوب، فعن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ " (رواه البخاري ومسلم)..
6-الصيام يشفع لصاحبه يوم القيامة:
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الصِّيامُ والقرآنُ يَشْفَعَانِ للعبدِ، يقولُ الصِّيام: " ربِّ إنِّي مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ والشَّرَابَ بِالنَّهارِ؛ فَشَفِّعْنِي فيهِ، ويقولُ القُرْآن: ربِّ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِالليلِ؛ فَشَفِّعْنِي فيهِ، فيشَفَّعَانِ " (رواه أحمد وصححه الألباني).
7-الصيام سبب لدخول الجنة:
 عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحدٌ غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحدٌ غيرهم، فإذا دخل آخرهم أغلق، فلم يدخل منه أحد " (رواه البخاري ومسلم). 
8-الصيام من الأعمال التي وعد الله صاحبها بالمغفرة والأجر العظيم:
فقال سبحانه وتعالى: " إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا " (الأحزاب:35).
 9-للصائم فرحتان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قاٍل رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ... لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا، إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ " (رواه البخاري ومسلم)..
10-خلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والَّذي نَفْسُ محمد بيده لخلوفُ فم الصَّائم أطيب عند الله من ريح المسك" (رواه البخاري ومسلم). 
قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله في كتابه التمهيد: " يريد أزكى عند الله تعالى وأقرب لديه وأرفع عنده من رائحة المسك ". وعلل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله كون خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك بقوله: " لأنها من آثار الصيام فكانت طيبة عند الله سبحانه ومحبوبة له, وهذا دليل على عظيم شأن الصيام عند الله. 
ثالثا: فوائد القيام:  
 قيام في ليالي رمضان: 1-فضل
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " .
2-وعن عمرو بن مرة الجهني قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من قضاعة فقال: يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وصمت الشهر، وقمت رمضان، وآتيت الزكاة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من مات على هذا كان من الصديقين والشهداء".
3-وأفضل لياليه ليلة القدر، لقوله صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ رواه البخاري (1901)، ومسلم(759). 
4-وهي ليلة سابع وعشرين من رمضان على الأرجح، وعليه أكثر الأحاديث منها حديث زر بن حُبيش قال: سمعت أبي ابن كعب يقول  - وقيل له : إن عبد الله بن مسعود يقول : من قام السنة اصاب ليلة القدر  فقال أُبيّ رضي الله عنه : رحمه الله ، أراد أن لا يتكل الناسُ ، والذي لا إله إلا هو ، إنها لفي رمضان - يحلف ما يستثني  - ووالله إني لأعلم أي ليلة هي ؟ هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، هي ليلة صبيحة سبع وعشرين وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها ورفع ذلك في رواية إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم وغيره. 
رابعا: فضائل التلاوة:  
القرآن دليل الرحلة، ومعراج الهداية، وكتاب هذه الأمة الخالد الذي أخرجها الله به من الظلمات إلى النور، وجعلها به خير أمة أخرجت الناس، فقد روى الامام احمد عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والانجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان" أخرجه الإمام أحمد وحسنه الألباني.
وإليك أهم الفضائل:
1-حق التلاوة صفة تجعل المسلم من الذين يؤمنون بالقرآن، ويعظمون شعائر الله، ويحلون حلاله، ويحرمون حرامه، ويرجعون محكمه إلى مشابهه: قال:" الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121). 
وهنا أقوال أربعة في تفسير (حق التلاوة) أوردها ابن جرير الطبري في تفسير الآية 121 من سورة البقرة 
أ- قال ابن عباس: (يتلونه حق تلاوته)، يتبعونه حق اتباعه. 
ب-وقال ابن عباس أيضا في قوله الله عز وجل: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ)، قال: يحلون حلاله، ويحرمون حرامه، ولا يحرفونه. 
 ج- قال مجاهد، (يتلونه حق تلاوته) يعملون به حق عمله. 
د- قال الحسن: (يتلونه حق تلاوته) قال: يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه ، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه.
2-لا شك أن قراءة القرآن في رمضان من أحب الأعمال إلى الله فقد أثنى الله على عباده قائلًا في سورة فاطر
" إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ" (29). 
3- شفاعة القرآن: وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه" رواه مسلم
4- نيل الدرجات العالية في الجنة بسبب التلاوة والترتيل فقد أخرج الترمذي وأبو داود وأحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال": يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتّلُ في الدّنْيَا فإِنّ مَنْزِلَتكَ عِنْدَ آخِرِ آيةٍ تَقْرَؤُهَا" رواه أبو داوود والترمذي وصححه الألباني. 
5-عن ابن عباس قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة" أخرجه أحمد وحسنه الالباني.
6-قال بن رجب وفي حديث ابن عباس: "أن المدارسة بينه وبين جبريل كان ليلا يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلا، فإن الليل تنقطع فيه الشواغل، وتجتمع فيه الهمم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر". لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي، ص:169.
7-عن سليمان بن يسار قال قام عثمان بن عفان رضي الله عنه بعد العشاء فقرأ القرآن كله في ركعة لم يصل قبلها ولا بعدها.
8-كان الإمام مالك إذا دخل رمضان أغلق كتب الحديث، والفقه، وغيرها، ولا يشتغل إلا بالقرآن،
9-- كان الإمام الشافعي يختم القرآن في رمضان ستين مرة.
10- كان الامام البخاري يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليال بختمة.
11- كان الامام أبو حنيفة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة، وفي رمضان في كل يوم مرتين، مرة بالنهار ومرة بالليل.
ولقد كان الصحابة والتابعون وكبار الأئمة والربانيون حريصين في كل عصر على نصيبهم من التدبر؛ لأنه من أعظم الأعمال الجالبة للأجر والثواب والحسنات المضاعفة في شهر الصيام حرصا منهم على التفهم والتعقل والاعتبار بقصصه وتعاليمه ووصاياه ووعده ووعيده. فما التدبر؟ 
رابعا: تعريف التدبر: 
أ-التدبر في اللغة: 
التدبر مشتق من مادة (د ب ر) وهي تدل على آخر الشي وخلفه، يقال دبَّر الشيء وتدبَّره: نظر في عاقبته. واستدبره رأى في عاقبته ما لم ير في صدره. والتدبر في الأمر التفكر فيه. معجم مقاييس اللغة لابن فارس. ج 324:2 ولسان العرب لابن منظور، ج: 237:4
 وقد ورد لفظ التدبر على صيغة التَّفعُّل للدلالة على التكلف والتعقب والنظر مرة بعد مرة وكرة بعد كرة لحصول الأثر الناجم عن المجاهدة التي يجعلها المتدبر عنوانا لجهده ونصبه واجتهاده في تحقيق المراد.
 ب-التدبر في الاصطلاح: نشير إلى التعريفات التالية:
1- قال ابن القيم: "هو تحديق ناظر القلب إلى معاني القرآن، وجمع الفكر على تأمُّله وتعقُّله، وهو المقصود بإنزاله لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر" (مدارج السالكين، ج: 1،475).
 وقال ابن القيم في موضع آخر في توضيح المراد من التدبر: "وتدبر الكلام أن ينظر في أوله وآخره ثم يعيد نظره مرة بعد مرة، ولهذا جاء على بناء التفعل كالتجرع والتفهم والتبيُّن" كما قال أيضا: "إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، والق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه إليه؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله". (الفوائد لابن القيم، ص: 3).
 2- قال العلامة الألوسي: "وأصل التدبر: التأمل في أدبار الأمور وعواقبها، ثم استعمل في كل تأمل، سواء كان نظرا في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه" (روح المعاني، ج: 5: 92)
 3- وقال الامام الخازن: "أصل التدبر: النظر في عواقب الأمور، والتفكر في أدبارها، ثم استعمل في كل تفكر وتأمل، ويقال "تدبرت الشيء" أي: نظرت في عاقبته، ومعنى تدبر القرآن تأمل معانيه، والتفكر في حكمه، وتبصر ما فيه من الآيات".(لباب التأويل في معاني التنزيل، 1،402).
 4- وقال الإمام السيوطي: "وتسن القراءة بالتدبر والتفهم.. وصفة ذلك أن يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يلفظ به، فيعرف معنى كل آية ويتأمل الأوامر والنواهي، ويعتقد قبول ذلك، فإن كان مما قصَّر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر، وإذا مر بآية رحمة استبشر وسأل، أو عذاب أشفق وتعوذ أو تنزيه نزَّه وعظَّم، أو دعاءٍ تَضَّرع وطلب". (الإتقان في علوم القرآن، 1/127).
خامسا: ذكر الآيات الداعية إلى التدبر:
وردت لفظة التدبر والدعوة الصريحة إليه في أربع آيات قرآنية تبين أهميته وكيف يساعد على الفهم والتعقل ومعرفة المراد وضبط المعنى والتفكر في العواقب والمآلات وذلك في سور عدة منها سورة ص وسورة المؤمنون وسورة النساء وسورة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك حسب ترتيب النزول:
1 - إن الله تعالى قد دعا أرباب العقول والإيمان إلى التدبر والتذكر والتأمل في المعاني والأسرار القرآنية، وجعل حصول البركة الشاملة التي هي أثر من آثار العمل به ونشره والدعوة إليه منوطا بالتدبر، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [ص:29].
 2 - إن الله شدد النكير والتأنيب للذين أعرضوا عن القرآن وهجروه وعطلوا عقولهم ومواهبهم عند تلاوته وسماعه، قال تعالى: {أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين} المؤمنون: 68.
3 - كما نعى القرآن على أولئك الذين لا يتدبرون القرآن ولا يستنبطون معانيه ولا يقفون عند عجائبه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً. وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}. [النساء: 82، 83].
 4 - كما وبَّخ القرآن المنافقين المعرضين عن التدبر وأنَّبهم أشد تأنيب، ووصفهم وصفا حسيا يدل على استحالة دخول الهداية إلى قلوبهم وهم على تلك الحال من الهجر والإعراض والتكبر، قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} محمد: 24.
سادسا: فوائد التدبر:
1-قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بعقله وتدبره بقلبه وجد فيه من الفهم والحلاوة والهدى وشفاء القلوب والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام، لا منظومه ولا منثوره" (اقتضاء الصراط المستقيم ص: 384).
وهكذا فالتدبر هو الطاقة الدافعة إلى الفهم والمعرفة والاستنباط، وهو القوة الجالبة للتمثل والتخلق والتطبيق.
2-فالقرآن محراب المتدبرين والمستنبطين وعلماء الاجتهاد، والكون محراب الدارسين والعابدين وعلماء التجارب والماديات؛ وكلٌّ في فلك يسبحون تدبرا واستنباطا وانتفاعا بمواعظ القرآن وأشفيته ورحماته، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57].
3-ولا ريب أن الفهم والتدبر   والاستنباط من أعظم القربات، وأكمل الأعمال، وأوجب الواجبات، وأجل الطاعات؛ لأنه يقود العاقل إلى التأثر والتروي والاعتبار والعمل بموجبات العلم ووصايا الدين ورصيد التجارب، قال تعالى: ﴿لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون﴾ [الحشر21].
 4- وفي هذا المعنى الجزيل يقول ابن القيم: "فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر في معاني آياته". (مدارج السالكين ج: 1، ص: 475).
 فإذا كان القرآن هو مفتاح القلوب والعقول؛ فإن التدبر هو مفتاح القرآن والسبب الرئيس في معرفة كنوزه وفضائله وثمراته كما أنه هو القائد إلى تمثل الفوائد والحكم القرآنية حتى تكون خُلُقاً في حياة الفرد والأسرة والمجتمع.
5-قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: 23] وكما قال ابن مسعود مبينا سيرة صاحب القرآن ومسيرته: (ينبغي لحاملِ القرآنِ أَنْ يُعرفَ بليلِه إذا الناسُ ينامون، وبنهارِه إذا الناسُ يُفطرون، وبحزنِهِ إذا الناس يَفرَحون، وببكائِه إذا الناسُ يَضحكون، وبِصَمتِه إذا الناسُ يَخُوضُون، وبخشوعِه إذا الناس يختالون، وينبغي لحاملِ القرآن أَنْ يكونَ مُستكيناً لَيِّناً، ولا ينبغي له أن يكونَ جَافياً ولا ممارياً ولا صَيّاحاً ولا صَخّاباً ولا حديداً). أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: 8/305.
6-ثم إن الله تعالى إذا أراد لقلب من قلوب عباده أن يكون خاليا من غير المعرفة الربانية المقدسة، وقوة التطلع إلى دار الخلود؛ فتح الله له كنوز القرآن وموائده، وبصَّره بحقائق و بفقه السنن الإلهية، وحبب إليه هدْي الرسول وطريقه، وجعل قرة عينه في السنن والآداب والمآثر النبوية ومعالم الهدى قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ [النساء: 174].
اللهم وفقنا للصيام والقيام والتلاوة والتدبر والدعاء والتضرع وارزقنا فرصا عظيمة للتقرب والتوبة وكسب الثواب. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين.

 

سبت, 25/04/2020 - 20:19