نعم هي ساعة واحدة وربما أقل قليلا، لكنها ساعة في لبير: أحب البقاع إلى القلب، القرية الصغيرة الجميلة التي احتضنتني طفلا، وعلمتني مداخل العلوم، ونكهات أغلب الفنون، وطبعت شخصيتي بخاصيتين من خصائص البداوة: ١) حب الحرية، ٢) والحساسية المفرطة من كل أنواع التزمت.
فمن هذه القرية الصغيرة تعلمت حكما فريدة من الشريعة الغراء منها أن علم كل شيء أفضل من جهله، وألا حياء في العلم، وألا مشاحة في الاصطلاح، وأن لكل مقام مقال، وأن ناقل الكفر غير كافر، وأن معرفة الشر أفضل الوسائل لتحاشي الوقوع فيه والتعامل معه إن حصل، وأن من تعلم لسانا إزداد إنسانا، وأن الولوج لكل فن من شيم النابهين، وأن الأخذ من كل ثمر وفنن من فنون الفن من شيم الفتيان، وأن العلم يأخذ من كل أحد حتى من الحيوان، فلذلك بعث الله غرابا يبحث في الأرض، ولنفس السبب قال الهدهد في نشوة أحطت بما لم تحط به...
حين تراءت في ساعات الصباح الباكر الأجزاء الجنوبية من "لبير"، تزاحمت في الذهن أفكار وأحاسيس كثيرة.
لقد بدأت الذاكرة تستعرض أمام ناظري، كشريط الأخبار العاجلة، لحظات ومواقف كثيرة عشتها بين تلك المنازل، في هذا الوادي وما جاوره وعلى تلك الكثبان وما وراءها.
فعلى ذلك الكثيب الشرقي وقفت آخر مرة في ساعات متأخرة من الليل قبل عشرين سنة من اليوم، وأنا أحس أن غيابي هذه المرة سيطول، فلم أجد بدا من التمثل بالبيت التالي
تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار
وهناك في ذلك المسجد الذي يقترب رسمه شيئا فشيئا أتذكر كيف كنت أسترق السمع للجدالات العميقة أحيانا، والمضحكة أحيانا أخرى بين كبار السن حول معاني عويص المفردات، وغريب الأحكام، وشاذ الآراء، وطريف الأشعار... ولكم كنت أفرح حين يجر احتدام الصراع بين طرفي جدال إلى التحاكم إلى أحد الكتب في المسجد، لأنني أعرف أنني سأكون أداة فض النزاع. فأنا بحكم تهجيري للصلاة أكون في الغالب المراهق الوحيد الموجود في المسجد، والحاضرون المتخاصمون لم يعد باستطاعتهم قراءة هذه الكتب، ولذا فهم دوما يطلبون مني فتح كتاب معين وقراءة ما جاء في الباب الذي اختصموا فيه.
ولكم كنت أحس بالاعتزاز حين يضع المنتصر في الجدال يده على منكبي قائلا شكرا بني على اتقانك للقراءة، ثم يضيف:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
ولأن انتصار طرف يعني هزيمة طرف فلم تكن سعادتي بهذا المدح تطول إلا ثوان يسيرة. فكثيرا ما لمّح الطرف الذي لم يربح الجولة إلى أن ثمة ربما حاجة إلى قراءة ثانية.
وهنا في هذا المسجد دخلت أول معركة في الحياة لإثبات أحقيتي في الوقوف في الصف الأول، ففي أحد الأيام وأثناء اصطفافنا لصلاة المغرب، تقدمت إلى الصف الأول، لكن أحد الشيوخ أطال الله عمره ومتعه بالصحة والعافية، رأى أن الكبار أحق بالصف الأول مني، وأشار إلي بأن أتراجع، ولأنني كنت طفلا عنيدا تجاهلت أمره، ولزمت مكاني في الصف وأنا أتمثل قول أبي تمام:
فأثبت في مستنقع الموت رجله وقال لها من تحت أخمصك الحشر.
وفور انتهاء الصلاة، رفع الشيخ الكريم للجماعة أن المراهقين يزاحمون الكبار على الصف وأن هذا لا يصح شرعا. وككل الخلافات، فتحت الكتب وأدلى كل بدوله، وأنقشع غبار هذه المعركة على أن من "عقل القربة" (وكانت أول مرة أسمع فيها هذا المصطلح ولم أنسه من تلك اللحظة) يعامل معاملة البالغ، وله الحق كغيره من البالغين في ألا يؤثر غيره بالقربة.
كنت منتشيا بذلك النصر!
ثم تداعت علي الذكريات كسيل غامر جارف.
وغير بعيد من هذا المسجد، رجعت بي الذاكرة إلى لمحة من زمن الصبا، إلى لحظة جلست وصبية في سني ندرس على شيخ وقور معلقة أمرئ القيس، وكان أحد الصبية قد قرر أنه سيخرج الشيخ عن وقاره بمراجعته فيما دار "بدارة جلجل"، فقال:
"داداه—تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه أعالي جنانه—أليس يوم دارة جلجل يوما سيئا" قالها بالحسانية (أمال دارة جلجل أتف وورخست بيها).
تبسم الشيخ –ولقد أعادت الذاكرة الجلسة بكل ما فيها—وقال: أي بني إننا لا ندرس شعر هؤلاء القوم من الجاهلية لكي نتتبع أخبارهم ونعرف ما دار في حياتهم، وإنما نتعلمها لنتقن لغتهم لأنها مفتاح كتاب الله وشرعه.
لكأن صديقي لم يكن يبحث عن هذا الجواب، أو لربما توقع جوابا أقل صرامة، فلقد رأيته بعد ما كان سعيدا وقت طرح السؤال متهجما بعد الجواب.
ولي مع هذا الشيخ قصص أخرى أعادتها الذاكرة لي حين زرت قبره في ذلك اليوم.
ومن طريف ما أعادت لي الذاكرة ما حصل في أحد الأيام التي ذهبت معه فيها أنا وطفلين (ممن جمعتني وإياهم به القرابة في النسب والرغبة في تعلم العلم) إلى مزارع إلى الشمال الغربي من القرية لكي نساعده في بعض العمل، وكنا صبية لا نكاد نبلغ التاسعة. وكنا نرمي البذور في الرمل ونهيل عليها التراب، وكان يستسقي، ونقول من بعده بصوت واحد آمين، آمين.
ولم نكد نكمل عملنا حتى استعرضت السحب في السماء، فحجبت أشعة الشمس وأطفأت لهيبها، قبل أن تُفتح أبواب السماء بماء منهمر، ونحن لا حرز يمنعنا، ولاعدة لهذا الحال في أيدينا، فأستحال ضياء نهارنا عتمة، وحر يومنا قرا، وجفاف الأرض التي كنا نبذر فيها بللا ووحلا. ولأننا خمنا من طبيعة السحب أن المطر قد يطول، فلم يكن أمامنا بد من ترك المزارع والهرع إلى الحي.
حين تراءت بيوتات الحي من بعيد، أطلق أحد الطفلين ساقيه للريح، وراح يغدو لا يلوي على شيء. قررت أنا وزميلي أننا سنبقى مع الشيخ نسايره ونساعده.
في اليوم الموالي سمعت أنه قال حين وصل:
أما فلان (يقصد الطفل الذي استعجل الوصول): فإنه نجى منجى الحارث بن هشام
وأما هذين فإن لسان حالهما يقول:
لا يسلم ابن حرة زميله حتى يموت أو يرى سبيله
وعلى هذا الشيخ نفسه—تغمده الله بواسع رحمته—درست نظم ابن عاشر الذي يقدم الثالوث المعروف في الثقافة الدينية في موريتانيا (في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك). وإنني لأرى بالعودة إلى تلك الفترة أن تعلم الجزء المرتبط بالعقائد، وشرح الشيخ للحجج التي قامت عليها مقدماته، كانت بمثابة حقنة مناعة طويلة الأمد ضد لوثة الشك التي جرتني الحياة إليها في لاحق الأيام وفرضت علي أن أسبح في نهرها الجارف، وأنا أدرس العلوم الإنسانية في مجتمعات تطاول عليها الأمد، وتنازعتها الفتن، ولعبت بها الظنون أي ملعب، قبل أن تستقر على أن الحق متعدد في أمور البشر بتعدد البشر، وأن الحق المطلق، أو الأصل الموجد لا وجود له، وإن ساغ التفكير في وجوده، فإنه قد ترك ما أوجد لما أوجده له في حياة مشتاقة إلى نفسها، مشغولة بزخرفها عن فنائها.
وإلى الشمال الغربي من هذا المسجد، كنت أجلس في ساعات الفجر الأولى، بل قبلها بساعة أناجي لوحي، أتلمس في الظلام الدامس، خطوط النور التي كتبت عليه،
يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا...
من على تلك الألواح ومن تلك السطور التي نقلنا من كتاب الله عرفنا طريق هذا النور ومآل الواردين عليه والمقتبسين منه:
فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه وأتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون
ومن على تلك الألواح، عرفنا طبيعة وحقيقة الطرق الأخرى التي يسلكها المنحرفون عن المحجة البيضاء:
"كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض."
كانت أستاذتي على قدر كبير من الذكاء والطيبة و الصرامة في آن، فلقد كانت-- رحمها الله – تتجاهل تصرفاتنا الصبيانية الطائشة في أوقات كثيرة، لكنها لم تقبل منا أو تتسامح معنا فيما يشغلنا عن ألواحنا.
ولم تكن علاقتها وطيدة بالقرآن فحسب وإنما ارتبطت حياتها به، فبه تحيي ليلها، وبه تشهد فجر يومها، وبه تودع شمس غروبه، وبين هذا وذاك كانت تستثمر في الزمن الآتي بتحفيظ وتخريج أجيال من الحفاظ.
وهناك، وما أدراك ما هناك، هناك قضيت أغلب ساعات المراهقة التي تركتها تتفلت من بين يدي غير آبه ولا مكترث لأهميتها في تكويني، فمنها الكثير الذي قضيته في قراءة أمالي أبي علي القالي، ومنها الآخر الذي قضيته مع شرح مقامات الحريري للشريشي. ولم أكن أدرس أي من هذه الكتب ولا غيرها بشكل ممنهج، ولكنني كنت باحثا عن المتعة بين أوراقها، أتنقل مع أبي زيد إلى حيث انتقل، ثم أتصيد في الهوامش جميل النثر وأعذب الشعر.
لقد انقضت الساعة كما انقضت تلك الأيام، ولم أزل أريد المزيد...
القرية هي هي، برمالها الذهبية، وبيوتاتها العتيقة، وبهوائها النقي، وبمائها العذب، وبما بقي من أهلها الطيبين..
نعم هي هي، وإن لم تكن هي هي، فقد كانت أغلب البيوت منكسرة لفراق أهلها الذي غادروا إلى حيث دفعتهم مصالحهم، ولم يبق إلا أسر قليلة، تحمي هذه الذكرى الجميلة، تواسي الرمل، والبيوت وتبعث فيها أملا بغد أجمل، بموسم خريف، يأتي بالأحباب، و الأصحاب...
كان من حسن حظي أن سلمت على كل هؤلاء الخيرين، وأخذت الطاقة من وجوههم النيرة قبل أن أغادر.
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربا وما أحسن المصطاف والمتربعا